الشاعر أمية بن أبى الصلت الذى حضر البعثة ولم يسلم
يقول عنه سيد القمنى فى ( الحزب الهاشمى ) فصل جذور الأيديولوجيا الحنفية :
تصله أمه رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف ببيت عبد مناف بن قصي (ابن كثير : البداية والنهاية ، ج2 ، ص 206 .) وهو صاحب القول المأثور :
كل دين القيامة – إلا دين الحنيفية - زور !!
وكان يحاور أبا سفيان ويقول له : " .. والله يا أبا سفيان ، لنبعثن ثم لنحاسبن ، وليدخل فريق الجنة ، وفريق النار "
(ابن كثير : البداية والنهاية ، ج2 ، ص 209 .) ،
وحول عقيدته في البعث والحساب يقول شعرا :
باتت همومي تسري طوارقها ** أكف عيني و الدمع سابقها
مما أتاني من اليقين ولم ** أوت برأة يقصي ناطقها
أم من تلظي عليه واقدة النار ** محيط بهم سرادقها
أم أسكن الجنة التي وعد الأبرار ** مصفوفة نمارقها
لا يستوي المنزلان ولا الأعمال ** لا تستوي طرائقها
هما فريقان : فرقة تدخل الجنة ** حفت بهم حدائقها
وفرقة منهم أدخلت النار ** فساءتهم مرافقها
(جواد علي : المفصل ، ج5 ، ص 280 و281 . وانظر ابن هشام : السيرة ج1 ، ص 208 و209 . وانظر أيضا ابن كثير ، البداية والنهاية ، ج2 ، ص 206 : 208 .)
بأسمك اللهم
ويقول جواد علي : إن أمية حرم على نفسه الخمر ، وتجنب الأصنام ، وصام والتمس الدين ، وذكر إبراهيم وإسماعيل ، وكان أول من أشاع بين القرشيين افتتاح الكتب والمعاهدات والمراسلات بعبارة :
باسمك اللهم
لوحظ أن اللهم أقرب أسم عربى للإله العبرى الذى جاء أسمه فى التوراة وهو إيلوهيم استعملها النبي محمد " صلم " ثم تركها واستعمل بسم الله الرحمن الرحيم ) ،
هل أخذ محمد من أمية بن الصلت إشارات النبوة وتطهيره؟
وقد روي الإخباريون قصصا عن التقاء أمية بالرهبان ، وتوسمهم فيه أمارات النبوة ، وعن هبوط كائنات مجنحة شقت قلبه ثم نظفته وطهرته لمنحه النبوة (جواد علي : المفصل ، ج5 ، ص 280 و281 . وانظر ابن هشام : السيرة ج1 ، ص 208 و209 . وانظر أيضا ابن كثير ، البداية والنهاية ، ج2 ، ص 206 : 208 .)
وأمية هو القائل في رب الحنيفية الخلاق :
إله العالمين وكل أرض ** ورب الراسيات من الجبال
بناها وابتني سبعا شدادا ** بلا عمد يرين ولا حبال
وســـــواها وزينهـا بنور** من الشمس المضيئة الهلال
ومن شهب تلألأت في دجاها ** مـــــراميها أشـد من النصال
وشـق الأرض فأنجبت عيونا ** وأنهارا من العذب الزلال
وبارك في نواحيها وزكي بها ** ما كان من حرث ومال
يعتبر أمية أحسن الحنفاء حظاً في بقاء الذكر ، فقد بقي كثير من شعره وحفظ قسط لا بأس به من أخباره ، وسبب ذلك عند ( جواد علي ) بقاؤه إلى ما بعد البعثة ، واتصاله بتاريخ النبوة والإسلام اتصالاً مباشراً ، وملاءمة شعره بوجه عام لروح الإسلام ، برغم أنه حضر البعثة ولم يسلم ، ولم يرض بالدخول في الإسلام ، لأنه كان يأمل أن تكون له النبوة ، ويكون مختار الأمة وموحدها ، ولذلك ، برز كنموذج للاستقامة والإيمان والتطهر والزهد والتعبد ، وقد مات سنة تسع للهجرة بالطائف كافرا بالأوثان وبالإسلام (لويس شيخو : شعراء النصرانية ، ج2 ، ص 223.) !!
ويذكر الإخباريون المسلمون أنه لما سمع بخبر البعثة ذهب ليسلم ، لكن بعض أهل مكة علموا بمسيرة ، فأرادوا رده عن غايته ، فالتقوه عند القليب حيث قبر المسلمون سادات قريش في بدر الكبرى ، ولعلم القرشيين بحكمة أمية – التي دعته من قبل إلى تقدير السادات ؛ من حكماء مكة وأشرافها – فقد قالوا له : هل تدري ما في هذا القليب . قال : لا ؛ فقالوا له : فيه شيبة وربيعة وفلان وفلان ، فجدع أنف ناقته ، وشق ثوبه وبكى قائلاً : لو كان نبياً ما قتل ذوي قرابته ، وعاد يرسل نواحه شعراً يرثي قتلى بدر من أهل مكة ، في قصيدته الحائية التي يقول في بعضها :
ألا بكيت على الكرام بني ** الكرام أولي الممادح
كبكا الحمام على فروع ** الأيك في الغصن الصوداح
من كل بطريق لبطريق ** نقي اللون واضح
ومن السراطمة الجلاجمة ** الملاوثة المتجح
القائلين الفاعلين ** الآمرين بكل صالح
المطعمين الشحم فوق ** الخبز شحما كالأنافح
خذلتهم فئة وهم يحمون ** عورات الفضائح
ولقد عناني صوتهم من ** بين مستشق وصابح
(ابن كثير ، البداية والنهاية ، ج2 ، ص 212
وقال الإمام أحمد : " حدثنا إبراهيم بن ميسرة أنه سمع عمرو بن الشريد يقول قال الشريد : كنت ردفاً لرسول الله ( أي راكباً معه على بعير واحدة ) فقال لي : أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت شئ ؟ قلت : نعم ؛ قال : فأنشدني بيتاً ، فلم يزل يقول لي كلما أنشدته بيتاً : إيه حتى أنشدته مئة بيت " (جواد علي : المفصل ، ج5 ، ص 384 و385 .) ومن هذا الشعر ما يصح الوقوف معه كنموذج – لا شك رائع – لمعتقدات واحد من رجالات الحنيفية ( مع ملاحظة أن هذا الشعر قد يختلف الأمر في نسبته إليه أو إلى زميله في الحنيفية زيد ابن عمرو بن نفيل ، وما عدا ذلك فمتفق عليه ) :
فهو يقول في إيمانه :
الحمد لله ممسانا ومصبحنا ** بالخير صبحنا ربي ومسانا
رب الحنيفية لم تنفذ خزائنها ** مملوءة طبق الآفاق سلطاناً
وفي إيمانه – مثل عبد المطلب وزيد – بيوم بعث ونشور ؛ يقول :
ويوم موعدهم يحشرون زمرا يوم التغابن إذا لاينفع الحذر
وأبرزوا بصعيد مستو حرز وانزل العرش والميزان والزير
ويستطرد شارحاً مفصلاً عن هذا اليوم :
عند ذي العرش يعرضون عليه ** يعلم الجهر والكلام الخفيا ** يوم نأتيه وهو رب رحيم ** إنه كان وعده مأتيا ** رب كلا حتمته النار كتابا حتمته مقضيا
ويحذر من عذاب الدار الآخرة فيقول :
وسيق المجرمون وهم عراة ** لي ذات المقامع والنكال
فنادوا ويلنا ويلاً طويلاً وعجوا في سلاسلها الطوال
فليسوا ميتين فيستريحوا ** وكلهم بحر النار صالي
وحل المتقون بدار صدق ** وعيش ناعم تحت الظلال
لهم ما يشتهون فيها وما تمنوا ** من الأفراح فيها و الكمال
وعن إبراهيم ( عليه السلام ) وابنه إسماعيل ( عليه السلام ) اللذين يرجع إليهما الحنفاء عقيدتهم ؛ يحكي قصة الذبح والفداء ؛ في حوار طويل ممتع نجتزئ منه :
ابني إني نذرتك لله شحيصا ** فاصبر فدا لك خالي
فأجاب الغلام أن قال فيه ** كل شئ لله غير انتحال
فاقض ما قد نذرته لله واكفف ** عن دمي أن يمسسه سربالي
وبينما يخلع السراويل عنه ** فكه ربه بكبش حلال
وعن يونس يقول :
وأنت بفضل منك أنجيت يونسا ** وقد بات في أضعاف حوت لياليا
وعن موسى وهارون ولقائهما بفرعون مصر يقول :
وأنت الذي من فضل ورحمة ** بعثت إلى موسى رسولا مناديا
فقلت له أذهب وهارون فادعوا ** إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
وقولا له :
أأنت سويت هذه ** بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا
وقولا له :
أأنت رفعت هذه ** بلا عمد ، أرفق ، إذا بك بانيا
وعن عيسي وأمه يقول :
وفي دينكم من رب مريم أية ** منبئة بالعبد عيسي بأن مريم
تدلي عليها بعدما نام أهلها ** رسولا فلم يحصر ولم يترمرم
فقال :
ألا تجزعي وتكذبي ** ملائكة من رب عاد وجرهم
أنيبي وأعطي ما سئلت فإنني ** رسول من الرحمن يأتيك بانبم
فقالت : أني يكون ولم أكن ** بغيا ولا حبلى ولا ذات قيم
فسبح ثم اغترها فالتقت به ** غلاما سوى الخلقة ليس بتوأم
فقال لها : إني من الله أية ** وعلمني ، والله خير معلم
وأرسلك ولم أرسل غويا ولم أكن ** شقيا ، ولم أبعث بفحش ومأثم
ويقول جواد علي ما نصه :
" وفي أكثر ما نسب إلى هذا الشاعر من أراء ومعتقدات ووصف ليوم القيامة والجنة والنار ؛ تشابه كبير وتطابق في الرأي جملة وتفصيلاً ، لما ورد عنها في القرآن الكريم ، بل نجد في شعر أمية استخداما لألفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله والحديث النبوي قبل المبعث ، فلا يمكن – بالطبع – أن يكون أمية قد اقتبس من القرآن ؛ لم يكن منزلاً يومئذ ، وأما بعد السنة التاسعة الهجرية ؛ فلا يمكن أن يكون قد اقتبس منه أيضاً ؛ لأنه لم يكن حياً ؛ فلم يشهد بقية الوحي ، ولن يكون هذا الفرض مقبولاً في هذه الحال .. ثم إن أحداً من الرواة لم يذكر أن أمية ينتحل معاني القرآن وينسبها لنفسه ، ولو كان قد فعل لما سكت المسلمون عن ذلك ، ولكان الرسول أول الفاضحين له "
(جواد علي : المفصل ، ج5 ، ص 384 و385 . )
وهذا – بالطبع – مع رفض فكرة أن يكون شعره منحولاً أو موضوعاً من قبل المسلمين المتأخرين ؛ لأن في ذلك تكريماً لأمية وارتفاعاً بشأنه ، وهو ما لا يقبل مع رجل كان يهجو نبي الإسلام ( صلى الله عليه وسلم ) بشعره ، ولا يبقى سوى أنه كان حنيفياً مجتهداً استطاع أن يجمع من قصص عصره ، وما كان عليه الحنفاء من رأي في شعره ؛ خاصة مع ما قاله بشأنه ابن كثير : " وقيل إن كان مستقيماً ، وإنه كان أول أمره على الإيمان ، ثم زاف عنه " (ابن كثير : البداية والنهاية ، ج2 ، ص205 .) .
وفى وصف الملائكة
جاء فى ( الشريعة الإسلامية : بحث في الموروث التشريعي للجزيرة العربية قبل الإسلام )
ورغم البصمة الإسلامية الواضحة في أغلب شِعر أمية إلا أن هناك من أشعاره ما تتضح فيه الروح العربية؟ حيث يستخدم فيه ألفاظ لم تكن تستخدم إلا في شعره مثل قوله:
ملائكة لا يفترون عبادة -- كروبية منهم ركوع وسجد
فساجدهم لا يرفع الدهر -- رأسه يعظم رباً فوق ويمدَّد
وراكعهم يحنو له الدهر خاش -- عاً يردد آلاء الإله ويحمد
ومنهم مُلفٍّ في الجناحين رأسه -- يكاد لذكرى ربه يتفصّد
(شعراء النصراتية - ص 227)
هذا الوصف للملائكة غير مستخدم في الشعر المكتوب بعد الإسلام؟ حيث أنه وصف يعتمد بشكل أساسي على ما جاء في التوراة حول الكروبيم - الملائكة - وهو ما لا نجده في شعر ما بعد الإسلام