Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم المؤرخ / عزت اندراوس

التعليم فى عصر إسماعيل

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
وزراء التعليم فى 80 سنة
مدرسة أو كلية دار العلوم
الخديو اسماعيل ومدارس الاقباط
على باشا مبارك

 

جريدة الأهرام بتاريخ 23/8/2007م السنة 132 العدد 44089 عن مقالة بعنوان [ ديوان الحياة المعاصرة - عــــودة اضــــطرارية‏!‏ بعد عصر إسماعيل‏:‏ زاد أعضاء البعثات إلي أوروبا - بسب إرسال الأعيان لأبنائهم لإتمام الدراسة بها -لم يعد المصريون المقيمون في لندن - يعيرون اهتماما للغارات الألمانية رغم شدتها‏!‏ ] بقلم : د‏.‏ يونان لبيب رزق
الحلقة‏697‏
عرفت مصر منذ أن بدأ واليها محمد علي باشا في بناء جهازه التعليمي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر إرسال بعض أبنائها لتلقي العلوم الحديثة في أوربا‏,‏ والتي غلب عليها مجموعة من السمات‏:‏ أنه تم توجيه معظمهم إلي فرنسا لدرجة أن الحكومة المصرية اكترت لهم بيتا يقيمون فيه وجعلت أحد الرجال الذين قدموا مع الحملة الفرنسية مسئولا عنهم‏,‏ ثم أن قليلا منهم من انحدروا من أصول مصرية وجاءت البقية من الطبقة التركية الحاكمة‏,‏ فضلا عن ذلك فإن الروح العسكرية سادت هذه البعثة‏,‏ وكانت تحت ضبط وربط المسئول الفرنسي‏..‏ كل هذه الأمور وأكثر منها بينها بالتفصيل الشيخ رفاعة رافع الطهطوي في عمله الأول‏:‏ تخليص الإبريز في تلخيص باريز‏,‏ عندما ذهب إماما لإحدي هذه البعثات التي توجهت إلي العاصمة الفرنسية عام‏1826.‏
وعلي الرغم من أن عدد أعضاء هذه البعثات قد تقلص كثيرا في عهد عباس الأول وسعيد‏(1848-1863)‏ إلا أنها عادت للانتعاش مرة أخري خلال عهد هذا الخديوي إسماعيل‏,‏ وذلك بعد أن عادت العناية بالتعليم‏,‏ ولكن ليس بالثوب العسكري الذي كانت ترتديه في عهد جده مؤسس الدولة الحديثة‏;‏ فإلي جانب المدارس العسكرية التي اعتني بها الحاكم اتخذت المدارس القديمة مثل الطب والمهندسخانة طابعا مختلفا وأصبحت مهمتها تخريج الأطباء والمهندسين ليعملوا بوظائف الحكومة المختلفة جنبا إلي جنب مع العمل بالجيش‏,‏ أضف إلي ذلك بعض المدارس العليا الجديدة‏,‏ مثل مدرسة الحقوق المنبتة الصلة بالحياة العسكرية‏.‏
خلال فترة أواخر هذا الخديو حدث تطور اجتماعي زاد من أعداد الذين يقصدون الخارج للتعليم‏,‏ فقد بدأ ظهور طبقة الأعيان المصريين من كبار الملاك‏,‏ الذين لم يكتفوا بانخراط أبنائهم في المدارس العليا وبدءوا يبعثون بهم إلي المدارس العليا في الخارج‏,‏ خاصة مدرستي الحقوق في كل من باريس ومونبلييه‏,‏ هذا فضلا عن البعض من خريجي كلية فيكتوريا في مصر الذين أرسلهم آباؤهم إلي بعض الجامعات العريقة في بريطانيا‏,‏ خاصة كمبردج وأكسفورد‏,‏ وتلقوا ما عن لهم من فروع التعليم‏,‏ كأن يحصل محمد محمود مثلا علي شهادته في التاريخ‏,‏ وكأن يدرس محمد عفيفي فرع طب الأطفال‏!‏
ومع الوقت تزايد عدد المبعوثين في الخارج‏,‏ الذين رفدوا من رافدين‏;‏ أساسيين‏;‏ أولهما‏:‏ الجامعة المصرية التي كانت تزداد أعداد طلابها‏,‏ مما بدت الحاجة معه إلي زيادة عدد أعضاء هيئات التدريس في سائر كليات الجامعة‏,‏ هذا فضلا عن أن سائر كليات الجامعة قد بدأت هيئات التدريس فيها بأعداد من الأساتذة الأجانب‏,‏ وكان مطلوبا تمصيرها‏,‏ كلما أمكن ذلك‏.‏
الرافد الثاني‏:‏ من أبناء الطبقة الجديدة الذين زاد إيفادهم إلي أوربا للتعلم‏,‏ وأصبح هناك عدد من البعثات التي يمكن توصيفها‏'‏ بالأهلية‏',‏ جنبا إلي جنب مع البعثات الأميرية‏,‏ مما أدي إلي زيادة أعداد الباحثين المصريين‏,‏ ليس في فرنسا وإنجلترا فقط‏,‏ بل في بلدان أوربية أيضا علي رأسها سويسرا‏,‏ وإن قل العدد في ألمانيا ربما لحاجز اللغة‏,‏ وربما بحكم الاعتياد‏!‏
كانت هذه الظواهر قائمة خلال الفترة السابقة علي قيام الحرب العالمية الأولي المعروفة بالحرب العظمي‏,‏ وبدت الحاجة شديدة إلي عودة هؤلاء من دور العلم التي كانوا يتلقون دراساتهم فيها‏,‏ مما صنع مشكلة غير أنها كانت هينة‏..‏ السبب أن البلدان التي تركز فيها هؤلاء كانت جميعا في جانب واحد‏;‏ فرنسا وإنجلترا وإيطاليا‏,‏ هو الحلفاء‏,‏ وبالتالي لم يكونوا في موقع الخطورة في تنقلاتهم‏,‏ ولم يكن ثمة أسباب قوية للعودة الاضطرارية إلي مصر‏,‏ إلا من رغب في ذلك وكانوا أقلية ضئيلة‏,‏ مما لم يشكل ظاهرة في التاريخ المصري خلال تلك الحقبة‏.‏ أضف إلي ذلك أن الطيران المدني لم يكن مستخدما وقتئذ‏,‏ وكان علي من يرغب في العودة إلي بلاده مخافة أهوال الحرب في أوربا أن يعود بحرا‏,‏ مما يعرضه لخطر أكبر بسبب انتشار حرب الغواصات‏.‏
اختلف الأمر بالنسبة للحرب العالمية الثانية‏,‏ فمن ناحية أصبح لمصر وضعا مختلفا عما كانت عليه قبل الحرب العالمية الأولي‏,‏ خاصة بعد عقد معاهدة‏1936,‏ إذ بينما كانت من الناحية القانونية مع قيام الحرب العالمية الأولي جزءا من الدولة العثمانية‏,‏ لا إرادة لها في أن تعلن حربا أو تقيم سلما‏,‏ وعندما تغير وضعها نتيجة لقيام الحرب تحولت من الناحية القانونية أيضا إلي تبعية أخري هي التبعية البريطانية بعد إعلان الحماية عليها‏1914,‏ غير أن ما حدث بعد ثورة‏1919‏ وإعلان تصريح‏28‏ فبراير‏1922,‏ ثم عقد معاهدة‏1936‏ أدي إلي اختلاف وضعها الدولي وأصبح في إمكانها أن تعلن حربا أو تقيم سلما أو أن تعقد ما شاء لها من اتفاقات في حدود ما قبلت به بمقتضي تلك المعاهدة‏.‏
وكان أغرب ما وقع في بداية الحرب العالمية الثانية الهدنة التي عقدتها فرنسا مع ألمانيا في يونيو‏1940‏ والتي أثرت في وضع عدد كبير من الطلاب المصريين في أكبر تجمع من تجمعاتهم في غرب أوربا‏,‏ فقد حدث أن احتلت ألمانيا المناطق الشمالية الغربية من فرنسا‏.‏ أما الجزء غير المحتل فلم يسمح له إلا باستقلال اسمي‏,‏ وأصبح تحت إدارة حكومة نقلت مقرها إلي فيشي‏,‏ وهي الحكومة التي تولت المسئولية عن المستعمرات والممتلكات الفرنسية في المغرب العربي وفي الشام‏.‏
ووقع الطلاب المصريون في فرنسا في حيص بيص‏,‏ إذ بينما كان يدرس بعضهم في مؤسسات في الأراضي الواقعة تحت الاحتلال الألماني‏,‏ التي قطعت بلادهم علاقاتها معها‏,‏ كان البعض الآخر يدرس في الأراضي الواقعة تحت إدارة حكومة فيشي‏,‏ التي لم تلبث بلادهم أن اعترفت بها‏,‏ وبينما تم التعامل مع الأولين معاملة الطلاب المصريين في ألمانيا‏,‏ تم التعامل مع الآخرين معاملة زملائهم في سائر دول الحلفاء‏.‏
يبقي أخيرا أن نلاحظ أثر الموقف المصري من دولتي المحور علي الطلاب المصريين في كل منهما وفي القسم المحتل من فرنسا‏.‏ فقد رفضت الوزارات المصرية المتعاقبة المطلب البريطاني بإعلان الحرب علي أي من هاتين الدولتين‏,‏ ونتوقف هنا عند وزارة علي ماهر التي نشبت الحرب في عهدها‏,‏ وتلكأت في الاستجابة للمطلب البريطاني بإعلان الحرب‏,‏ وكان من ضمن أسباب هذا التلكؤ المخاوف علي الطلاب المصريين الذين يدرسون في دولتي المحور‏,‏ والمطالبة بإرجاء اتخاذ هذه الخطوة حتي ينجلي الأمر‏
إلي أن تحول هذا الموقف أخيرا لرفع شعار إنقاذ‏'‏ مصر من ويلات الحرب‏',‏ وكل ما فعلته الحكومة المصرية أن قطعت علاقاتها بالدولتين علي التوالي‏,‏ وكان لقطع العلاقات ثمنه المعقول علي أوضاع الطلاب المصريين في الدول التي قطعت علاقاتها بها‏,‏ فلم يعاملوا معاملة رعايا دول الأعداء‏,‏ بل عوملوا معاملة رعايا الدول التي انقطعت علاقاتها بها لسبب أو لآخر‏,‏ وبينما عومل الأولون معاملة رعايا الدول الأعداء‏,‏ والفارق كبير‏,‏ مما أجبر هؤلاء علي العودة وكانت اضطرارية‏!‏
وعلي ضوء كل هذه الحقائق نتتبع من صفحات الأهرام عن شكل العودة الاضطرارية للمبعوثين المصريين إلي غرب أوربا‏.***‏
وجاءت أول أخبار الطلبة المصريين في الخارج بعد إعلان الهدنة الفرنسية‏-‏الألمانية‏,‏ وجاء فيه أن الحكومة تبذل جهودها لإعادة هؤلاء ممن يتلقون العلم في فرنسا‏,‏ سواء منها الجزء المحتل أو غير المحتل ذلك أن‏'‏ بعضا من هؤلاء قد رغبوا إلي السلطات المختصة في بذل وساطتها في سبيل إعادتهم إلي بلادهم‏'.‏
ويضيف الخبر أن عدد هؤلاء الطلبة يبلغ الخمسين‏,‏ وهم من غير أعضاء البعثات الحكومية‏,‏ وكان غريبا ما جاء بعد ذلك من أن رحلة أي من هؤلاء تتكلف خمسة وسبعين جنيها‏,‏ وكان مبلغا كبيرا بمقاييس العصر‏,‏ الأغرب كان طريق الرحلة‏:‏ بالباخرة إلي جنوب إفريقيا‏,‏ ومنها إلي الهند ثم عن طريق البر إلي العراق‏,‏ ثم يواصلون السفر بالسيارات من البصرة حتي يصلوا إلي القاهرة‏.‏
وفي هذه المناسبة قدمت لنا الأهرام معلومات عن أعداد الطلاب في تلك البلاد‏;‏ المجموع‏232‏ طالبا‏,43‏ من أعضاء البعثات‏,189‏ يتلقون العلم علي حسابهم الخاص ومن الأولين‏34‏ طالبا في فرنسا المحتلة و‏9‏ في الأراضي غير المحتلة‏,‏ ومن الأخيرين‏81‏ طالبا في فرنسا المحتلة و‏108‏ في فرنسا غير المحتلة‏.‏
وجاء في نفس الخبر تقدير لأعداد الطلاب المصريين في سويسرا‏,‏ وقد بلغ‏51‏ طالبا‏,13‏ من أعضاء البعثات و‏38‏ يتعلمون علي حسابهم الخاص‏.‏
في إحصاء آخر نشرته جريدتنا في يوم‏28‏ أكتوبر عام‏1941‏ عن أعداد المصريين من طلاب البعثات في كل أنحاء أوربا‏,‏ تبين أن إنجلترا قد فازت بالنصيب الأكبر‏355‏ طالبا منهم‏56‏ مبعوثا‏,‏ وفي فرنسا المحتلة‏110‏ منهم‏4‏ من الأزهر‏,‏ و‏24‏ مبعوثا‏,‏ وفي فرنسا الحرة‏83‏ منهم أزهري واحد و‏39‏ في بعثة حكومية‏,‏ وفي أمريكا‏22‏ منهم‏19‏ مبعوثا‏,‏ وفي ألمانيا‏23‏ منهم‏3‏ في بعثة‏,‏ وفي بلجيكا‏9‏ كلهم تحت إشراف مكتب البعثات‏,‏ وفي إيطاليا‏4‏ تحت هذا الإشراف‏.‏
وإذا كانت الحكومة المصرية لم تتلق أية شكاوي من الطلاب الذين كانوا يتلقون دروسهم في الولايات المتحدة الأمريكية‏,‏ التي لم تعان من أسباب القتال علي أراضها‏,‏ فإن الآخرين الموجودين في غرب أوربا عاشوا تحيط بهم المخاطر اليومية‏,‏ ومن ثم كانت قضيتهم الأكبر أهمية‏,‏ وكانت رغبتهم في العودة إلي الوطن الأكثر إلحاحا‏.‏
وقد حاول ممثلو الحكومة المصرية في باريس وفيشي تنظيم عملية العودة‏'‏ وقد كان يؤخذ من الأنباء التي يتلقاها الموظفون المصريون أن بعضا من أولئك الطلاب ما زالوا يدرسون الحقوق والطب بقدر استطاعتهم‏,‏ غير أنه قد عاد إلي مصر كثيرون من المصريين المقيمين في فرنسا‏.‏
وبدأت رحلات‏'‏ العودة الاضطرارية‏'..‏ فقد جاءت الأخبار في‏13‏ أكتوبر عام‏1940‏ بأن إحدي البواخر غادرت ميناء مارسيليا وعليها‏16‏ مصريا ومصرية ذكرتهم بالاسم‏.‏
بقية المصريين الموجودين في فرنسا وأسبانيا‏119‏ شخصا اتفقت الحكومة المصرية مع الحكومة الإيطالية بوساطة من الحكومة الأمريكية علي أن يمنح الإيطاليون هؤلاء حق المرور بأراضيها ليعودوا إلي بلادهم عن طريق البلقان والأناضول وسوريا‏.‏
في يوم‏16‏ أكتوبر وصلت الباخرة القادمة من مارسيليا إلي بيروت تنقل أعضاء الفوج الأول‏,‏ وغادروها قاصدين إلي حيفا بطريق فلسطين ثم استقلوا منها القطار إلي القنطرة‏,‏ ومنها إلي القاهرة‏,‏ ولم يكن عدد هذا الفوج كافيا ليطمئن معه أولياء الأمور في مصر علي أبنائهم‏,‏ الأمر الذي نتبينه من الشكاوي التي قدمها هؤلاء إلي وزارة الخارجية التي رأت أن تتخذ جميع التدابير اللازمة لإعادة كل المصريين المقيمين في فرنسا وأسبانيا إلي مصر عن طريق إيطاليا والبلقان وسوريا‏.‏
وبعد مفاوضات طويلة مع الجانب الإيطالي وافقت حكومة روما علي الترخيص للمصريين المقيمين في فرنسا بالمرور في أراضيها بشروط قاسية‏,‏ كان أهمها ألا تزد مدة إقامتهم فيها عن‏24‏ ساعة‏,‏ غير أن أهم ما خرج به أهالي الطلاب من هذا الاتفاق أنه لم يعد ثمة مشكلة في استحضار أبنائهم إلي أحضانهم‏,‏ الأمر الذي دفعهم إلي مزيد من الإلحاح‏,‏ ولم يكونوا يعلمون أن المسألة زادت تعقيدا بعد أن تدخلت ألمانيا في القضية واشترطت أن توافق لجنة الهدنة الألمانية الفرنسية علي حصولهم أولا علي تأشيرة منها للسماح لهم بالمرور بإيطاليا‏.‏
وكان للمشكلة جانبها المادي‏,‏ فبعض هؤلاء الطلاب كانوا قد حصلوا علي إجازاتهم العلمية‏,‏ ولم يعد لوجودهم سبب في البلاد‏,‏ ثم أسوأ من ذلك أنه لم تعد مقار البعثات تمدهم باحتياجاتهم المالية‏,‏ هذا بالنسبة للطلاب الذين أرسلتهم الجامعة أو غيرها من المعاهد‏,‏ أما الطلاب الذين جاءوا علي حساب أهاليهم فلم يكن أمام هؤلاء الفرصة ليمدوا أولادهم باحتياجاتهم المالية بسبب الظروف القائمة‏.‏
وإزاء هذا الموقف المعقد تحرك محمود فخري باشا وزير مصر المفوض في فرنسا واقترح ترحيل المصريين علي بواخر برتغالية‏,‏ وهناك باخرة ترحل من لشبونة مرتين كل شهر‏,‏ وتستغرق رحلتها ثلاثة أسابيع أو أربعة‏,‏ أما أجرة السفر فتبلغ‏300‏ جنيه في الدرجة الأولي و‏250‏ جنيه في الدرجة الثانية‏.‏ وعلي الرغم من ارتفاع نفقة السفر فقد كان الطريق الذي تسلكه السفينة آمنا‏,‏ ففضلا عن حياد البرتغال الذي يجعل سفنها في مأمن من الطرفين المتحاربين‏,‏ فقد كانت السفينة تبحر عبر الرجاء الصالح حتي تصل إلي موزمبيق في شرق إفريقيا‏,‏ ليسافر منها المصريون إلي بلادهم‏.‏
ويبدو أن السفر من خلال الطريق البرتغالي كان طويلا ومكلفا‏,‏ الأمر الذي استقر الرأي معه أخيرا إلي الاتفاق مع شركة كوك الإنجليزية علي أن تكون عودة المصريين المقيمين في فرنسا إلي بلادهم عن طريق جنوب إفريقيا بأن يقصدوا إلي البرتغال أولا ثم يبحرون من لشبونة إلي جنوب إفريقيا‏,‏ ومن هناك يسافر من يرغب منهم بالطائرة‏,‏ بينما يسافر الآخرون بحرا إلي مصر‏.‏
غير أننا نتبين في نهاية الخبر حقيقة لم تتم الإشارة إليها من قبل‏,‏ ألا وهي أن يدفع أولياء الأمور نفقات السفر مباشرة إلي شركة كوك‏,‏ بمعني أنهم كانوا يدفعون أجور عودة أبنائهم من قبل للجهة الحكومية المسئولة عن إعادتهم‏,‏ونظن أنه لم تكن ثمة مشكلة بالنسبة لذلك من بعض الأسر الكبيرة التي بعثت بأبنائها‏,‏ أما الأسر المتوسطة قد اضطروا أن يدفعوا‏'‏ اللي وراهم واللي قدامهم‏'‏ في سبيل استعادة أبنائهم آمنين‏!‏
وقد فتح هذا الخبر الباب لمناقشة تكاليف‏'‏ العودة الاضطرارية‏'‏ للمبعوثين في فرنسا‏,‏ فحتي‏4‏ إبريل‏1941‏ كان جملة المتبقي‏200‏ طالب‏,‏ علي أن تكون العودة عن طريق أسبانيا ثم إفريقيا‏..‏ العودة بالدرجة الأولي في الطائرات تكلف‏300‏ جنيه‏,‏ أما العودة بالدرجة الثالثة فلا تكلف أكثر من‏75‏ جنيها‏.‏ ولما كانت هناك أعداد من الطلاب الراغبين في العودة دون أن يملكوا من المال ما يكفيهم‏,‏ فقد افتتحت الحكومة اعتمادا قدره خمسة آلاف جنيه لتغطية تكاليف هذه العودة‏!‏
ويبدو أن الاتفاق مع شركة كوك قد نجح في تحقيق أهدافه بالنسبة للطلاب المصريين المقيمين في فرنسا وبعض من كان يقيم في سويسرا‏,‏ الأمر الذي يدل عليه الخبر الذي نشرته الأهرام في‏14‏ إبريل عام‏1941,‏ والذي أفاد بأن إعادة هؤلاء ليست إجبارية‏'‏ فقد فضل أكثر الطلبة الذين لم يبق علي إتمام دراستهم سوي فترة قصيرة البقاء بمقار بعثاتهم‏,‏ إلي أن ينتهوا من دراستهم‏'.‏
‏***‏
ومن فرنسا إلي إنجلترا التي كانت تحظي وقتذاك بالعدد الأكبر من الطلاب المصريين‏,‏ كما سبقت الإشارة‏..‏ وكانت الصورة مختلفة فإنجلترا دولة حليفة بمقتضي المعاهدة‏,‏ ولم يتعرض المصريون فيها لأي اضطهاد أو سوء معاملة‏,‏ غير أنها كانت علي الجانب الآخر ميدان قتال تعرضت فيه سائر أنحائها لغارات جوية مستمرة‏,‏ وكانت تصل بين الحين والآخر الغارات العنيفة علي لندن والمناطق المحيطة بها‏,‏ الأمر الذي فضل معه عدد من المبعوثين المصريين العودة إيثارا للسلامة‏.‏
غير أن متابعة موقف المصريين الذي يعيشون في تلك المناطق‏,‏ تؤكد أنهم بعد أن بدأت تخف حدة هذه الغارات أصبح شأنهم شأن الإنجليز يتعايشون معها‏,‏ ففي خبر نشرته الأهرام في‏20‏ يناير عام‏1943‏ تحدث مكاتب الأهرام في العاصمة البريطانية عن الغارة التي جرت خلال الليلة السابقة وأنها خفيفة الوطأة إذا ما قورنت بغارات‏1940-1941,‏ ويضيف أن الجمهور‏,‏ بمن فيهم المصريون‏,‏ لم يعر اهتماما كبيرا للضجة التي صاحبت هذه الغارة بسبب ستار المدافع المضادة للطائرات الألمانية‏.‏
من جانب ثالث فقد طالب المصريون المقيمون في إنجلترا معاملتهم في عدم فرض أي قيود علي تحركاتهم داخل البلاد معاملة رعايا الدول التي شاركت في الحرب ضد دولتي المحور‏,‏ وهو ما لم يكن ينطبق علي مصر‏,‏ غير أن الحكومة البريطانية خففت من ذلك أن أعطت هؤلاء تصاريح شخصية‏.‏
كان من الطبيعي مع هذا أن يكون عدد من أبدي رغبته في العودة قليلا‏,‏ ولا يزد في أسوأ الأحوال عن تسعين‏,‏ أي أقل من ثلث عدد المبعوثين الموجودين علي الأراضي البريطانية‏,‏ أما من بادروا بالسفر فعلا فلم يزد عددهم عن ستة عشر طالبا اختاروا شركة‏'‏ كوك‏'‏ لترحيلهم إلي بلادهم‏,‏ والواضح أنهم كانوا من المنتمين إلي طبقة الأعيان الذين لم يرسلوا في بعثة حكومية‏,‏ خاصة وقد تحملوا نفقات سفرهم‏,‏ فوصلوا إلي مدينة دربان في جنوب إفريقيا وانتقلوا منها إلي بلادهم جوا‏.‏
ويبدو أن الحكومة المصرية لم تكن متحمسة لعودة هؤلاء وزملائهم في سويسرا‏,‏ ممن لم يستكملوا تعليمهم‏,‏ مما نتبينه من الخبر الذي نشرته الأهرام في شهر إبريل‏1941‏ بفتح اعتماد قدره‏15‏ ألف فرنك سويسري و‏1500‏ جنيه استرليني للمقيمين في إنجلترا‏,‏ وطلبت من بعض البنوك صرفها إليهم‏,‏ علي أن تحصل بعد ذلك من ذويهم‏!‏
اختلف الموقف بالنسبة لمن أنهوا دراساتهم والذين شجعت الحكومة علي عودتهم إلي البلاد‏,‏ علي أن يختاروا طريقا للعودة تقل درجة المخاطر فيه حتي لو طال طريق العودة‏,‏ ولعل القصة المنشورة في الأهرام الصادرة في‏30‏ إبريل‏1941‏ عن عودة أحمد فتحي الصيفي عضو بعثة جامعة الملك فؤاد‏,‏ وعلي أحمد سليمان عضو بعثة وزارة المعارف بعد أن أتما دراساتهما في الجامعات البريطانية تؤكد هذه الحقيقة‏.‏
فقد كانت الرحلة رغم طولها مريحة‏,‏ علي حد وصف الأهرام‏,‏ ولا نعلم من أين تأتي الراحة في رحلة تبدأ من الشواطئ البريطانية وحتي ميناء الكاب في جنوب إفريقيا‏(!),‏ وأنهما استقلا السكك الحديدية بعدئذ إلي جوهانسبرج ودربان‏,‏ ومن هناك ركبا طائرة لشركة الخطوط الجوية البريطانية نزلوا بها في كل من موزمبيق وتنجانيقا وكينيا وأوغندة والسودان حتي وصلا إلي القاهرة بالسلامة‏!!‏
علي الجانب الآخر اتخذت بعض الإدارات البريطانية إجراءاتها لطمأنة أهالي الطلاب في مصر وغيرها من البلدان العربية‏,‏ ومنها‏'‏ هيئة الإذاعة البريطانية‏'‏ التي قررت أن تخصص وقتا معينا لبث رسائل هؤلاء بأصواتهم إلي ذويهم وطمأنتهم علي سلامتهم‏.‏ ووضعت نظاما يقوم به صاحب الرسالة بكتابة نص رسالته‏,‏ وبعد مراجعتها وإدخال التعديلات اللازمة عليه دون إخلال بالمعني‏,‏ كان علي صاحب الرسالة أن يأتي إلي لندن إذا لم يكن مقيما بها ويسجل رسالته علي شريط صوتي ثم يبث في الوقت المناسب‏,‏ ويتراوح عدد الرسائل التي كانت تذيعها المحطة باللغة العربية بين خمس وعشر في الأسبوع‏,‏ ولا تتقاضي المحطة أي أجر عن هذا العمل علي ألا يزيد عدد كلمات الرسالة عن أربعين كلمة‏.‏
وقد رحبت الأهرام والصحف المصرية بهذه الخطوة‏,‏ حتي أنها كثيرا ما كانت تنبه الأهالي إلي مواعيد بث أحاديث أبنائهم‏,‏ مما نقدم عليه نموذجا هنا نشرته الأهرام في عددها الصادر يوم‏4‏ يناير‏1942,‏ وجاء فيه‏:'‏ يتحدث لفيف من المصريين المقيمين في لندن إلي ذويهم وأصدقائهم بمصر وذلك من خلال إذاعة البرنامج العربي من المحطة اللاسلكية بالعاصمة البريطانية في الساعة السابعة والربع من يوم الثلاثاء القادم بحسب التوقيت المصري‏.‏
‏'‏وسيتحدث الأساتذة إبراهيم الفوال إلي والدته في هليوبوليس‏,‏ ومنير فهمي شلبي إلي إبراهيم شلبي أفندي في أسيوط‏,‏ وصبحي شلبي أفندي إلي عمدة الأكوح في المنوفية‏,‏ وحسن الساعاتي إلي عبد العزيز الساعاتي في قليوب‏,‏ ومنير عبد النور إلي السيدة عبد النور في شارع الملك بالقاهرة‏,‏ ومن الآنسة فتحية خليفة إلي الأستاذ يوسف خليفة المدرس بالمدرسة المحمدية بالقاهرة‏'.‏
وقد ظلت الأهرام تنشر قوائم المتحدثين من محطة الإذاعة البريطانية‏,‏ وهي قوائم مفيدة للراغبين في متابعة أعضاء البعثات المصرية إلي بريطانيا خلال فترة الحرب العالمية الثانية‏,‏ وكانت جريدتنا تعطي اهتماما خاصا للآنسات والسيدات ممن يتلقون العلم في بلاد جون بول حتي أنها قدمت في احد أعدادها قائمة بأسمائهن جميعا‏.‏
أهم البلدان الأوربية خارج فرنسا وبريطانيا كان للمصريين وجود فيها الاتحاد السويسري الذي اتخذ موقفه الحيادي المعروف‏,‏ ولأن أغلب المصريين المقيمين في سويسرا كانوا في جنيف ذات الثقافة الفرنسية وليسوا في زيورخ ذات الثقافة الألمانية‏,‏ فإن قليلا منهم رأي العودة إلي بلاده‏.‏
ففي‏28‏ مايو‏1941‏ بدأ ترحيل‏42‏ طالبا مصريا ممن يتلقون علومهم في جنيف علي باخرة برتغالية من ميناء لشبونة قاصدين ميناء‏'‏ لورنزو ماركيز‏'‏ في موزمبيق‏,‏ واستأنفوا السفر منها إلي مصر بأسهل الطرق المتوفرة في الظروف القائمة هناك‏,‏ وكان خبرا يتيما‏.‏
باستثناء هذا الخبر أشارت كل الأخبار الأخري إلي أن بقية الطلبة المصريين في سائر أنحاء سويسرا يتمتعون بالاستقرار‏,‏ وأنه كانت لديهم‏'‏ جمعية مصر للطلبة المصريين‏'‏ الذين كانوا ينتخبون هيئتها التنفيذية بانتظام‏,‏ وقد تكونت هذه الهيئة سنة‏1942‏ من كل من الطيب محمود ناصر رئيسا‏,‏ ويوسف هيبة وكيلا‏,‏ محمد سليم الحجازي ونجيب رياض سكرتيرين‏.‏
وإذا كان لنا أن ننهي أخبار المصريين في الخارج خلال فترة الحرب العالمية الثانية فلدينا هذا الخبر الطريف الذي نشرته الأهرام عن المصريين في اليابان‏,‏ التي كانت أحد أطراف الحرب بعد ذلك‏,‏ وكان أنه يوجد في هذه البلاد مصري واحد هو الشيخ عمر عبد الله إمام مسجد طوكيو وكان الأزهر قد بعث به بناء علي طلب الحكومة اليابانية وهو في الثلاثين من عمره وخريج مدرسة القضاء الشرعي‏,‏ وقد بقي في مسجده يؤدي واجبه الديني بغض النظر عن التطورات السياسية والعسكرية في العالم المحيط‏!‏
 

This site was last updated 01/19/14