بقول الأب متى المسكين تفسيرا عن عبارة اسلم الروح
أسلم الروح
الكلمة اليونانية لا تفيد أنه أسلم الروح بل "تنفَّس النفس الأخير". أمَّا القديس متى فقال: أسلم الروح، وهنا أسلم الروح ترجمة صحيحة، أمَّا القديس لوقا فجاءت عنده: "يا أبتاه في يديك أستودع روحي، ولمَّا قال هذا أسلم الروح" (لو 46:23). فالقديس مرقس يتبع قول المسيح نفسه قبل الصليب الذي قاله: "لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها أيضاً" (يو 18:10)، "لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً" (يو 17:10) كما سيجيء، فهو وضع نفسه ووضع روحه ليُكمِّل واجبات الموت، ولكنها بقيت له وفيه وبها قام بعد أن أكمل عقوبة الموت معنا حتى التمام إلى ثلاثة أيام. "فحياته الأبدية" جزء من كيانه الإلهي لم تفارقه ولا لحظة واحدة، فموته الذي ماته ماته "بالجسد"، أمَّا نفسه وروحه فلم تُمس. لذلك من الواجب واللازم لاهوتياً أن لا نقول أبداً أن "المسيح مات" وحسب أو أن "الابن مات" وحسب، بل ينبغي لاهوتياً أن يُقال إنه مات بالجسد أو الابن مات بالجسد. فالآب لم يُحْيـِه من موت، بل هو الذي قام وحياته فيه، بل وأقامنا معه بحياته وقيامته؛ ولكن الآب بعد ذلك رفَّعه إلى أعلى السموات. ومجازاً يُقال إن الآب أقامه من بين الأموات أو أن الروح القدس أقامه من بين الأموات، لأنه هو "قام حقًّا"، قام بقوته وسلطانه وإرادته. ولكن أن يُقال الله أو الآب أو الروح أقامه فهذا جيدٌ، لأن الآب والابن والروح القدس قوة واحدة وسلطان واحد. وهذا اللاهوت يؤمِّن وحدانية الله في أقانيمه، ويؤمِّن الوحدة القائمة بين اللاهوت والناسوت.
وغني عن البيان الدقة اللاهوتية في تقرير القديس مرقس - وهو الأصل - أن المسيح على الصليب تنفَّس النفس الأخير وحسب، الذي على أساسه ينبغي أن يُعاد صياغة اللاهوت.
ولكن القديس يوحنا يقول: وتعني أسلم الروح، وهكذا نرى في جميعها أن المسيح سلَّم روحه بإرادته وسلطانه وحده.
ومن السهل ملاحظة أن صرخة تسليم الروح مرتبطة تماماً بصرخة "إلهي إلهي لماذا تركتني"، حيث لمَّا بلغ الترك أقصاه بلغت الرسالة مداها فكانت النهاية.
وواضح من الإنجيل أن المسيح أسلم روحه على أساس أنه سيستردها بنفسه:
+ "لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً (ثانية). ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي، لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً. هذه الوصية قبلتها من أبي." (يو 10: 17و18)
لقد لاحَظَ بيلاطس أن المسيح مات بأسرع من معدَّل موت الآخرين:
+ "جاء يوسف الذي من الرامة وهو مشير شريف، وكان هو أيضاً منتظراً ملكوت الله، فتجاسر ودخل إلى بيلاطس وطلب جسد يسوع. فتعجَّب بيلاطس أنه مات كذا سريعاً، فدعا قائد المائة وسأله هل له زمان قد مات؟" (مر 15: 43-44)
هذا يوضِّح لنا أن المسيح لم ينتظر عوارض الموت لتُداهمه، بل أسلم روحه لما وجد أن كل شيء قد أُكْمِل:
+ "فلمَّا أخذ يسوع الخل قال قد أُكمل، ونكَّس رأسه، وأسلم الروح." (يو 30:19)
هذه كلها براهين واضحة أن روحه لم تُنتزع منه؛ بل هو هو الذي أسلمها بإرادته بعد أن أكمل واجبات الموت من آلام.
هذا هو الموت عند المسيح، فهو ليس عدواً يَصرَع وقضاءً مبرماً ونصيباً محتوماً، وصاعقة تنزل في لحظة لا ينتظرها الإنسان؛ بل المسيح هو الذي اقتحمه بجرأة وقداسة برِّه، لأنه منزَّه عن كل دَيْن للموت، دخله وهو يحمل في كيانه قوة الحياة الأبدية، فوطأ الموت بقدميه وخلَّص من براثنه كل أسرى الرجاء الذين ماتوا وعيونهم شاخصة لله يطلبون الحياة والوطن الأفضل، وهبهم حياته وصعد بهم فتلقاه الآب بجبروت يمينه ورفعه إلى أعلى السموات وأجلسه عن يمينه مع كل أسرى حبه:
+ "وأنتِ أيضاً فإني بدم عهدكِ قد أطلقتُ أسراكِ من الجُب الذي ليس فيه ماء." (زك 11:9)
+ "ارجعوا إلى الحصن يا أسرى الرجاء." (زك 12:9)
+ "لذلك يقول أيضاً: إذ صعد إلى العلاء سبى سبياً (ضمَّ إليه الذين سباهم الشيطان) وأعطى الناس عطايا، وأمَّا أنه صعد فما هو إلاَّ أنه نزل أيضاً إلى أقسام الأرض السفلى. الذي نزل، هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السموات لكي يملأ الكل." (أف 4: 8-10)
******
أسلم الروح
( يو 9 1 : 0 3 )« قال [ الرب ] قد أُكمل . ونكس رأسه وأسلم الروح »
انتبه إلي عبارة « وأسلم الروح » ففي الأصل اليوناني كلمة « أسلم » تدل علي عمل إرادي ، وهي نفس الكلمة المستخدمة في عدد 6 1 من ذات الأصحاح « فحينئذ أسلمه [ أسلم بيلاطس الرب ] إليهم ليُصلب » ..
والمعني ، أن الرب هو الذي أسلم روحه .. أي أنه هو الذي حدد لحظة موته !! ..
هو الذي أسلم روحه وليس أحـد أخـذها منه ، فعل تماماً ما قاله من قبل « أضـع نفسـي لآخـذها أيضـاً . ليس أحـد يأخـذها مني بـل أضـعها أنـا من ذاتـي . لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً » ( يو 0 1 : 7 1 ، 8 1 ) ..
لقد حـدد هو لحظـة موته !! انظر لقد أسلم روحـه مباشرة بعد أن قال « قد أُكمل » .. أي بعد أن أكمـل هدف صلبه .. بعد أن تحمل عقـوبة خطايانا كاملة ..
لقد أسلم الرب روحه بعد ما لم يكن هناك ضرورة لبقائه مُعذباً علي الصليب .. وهذا هو سبب موته السريع قبل اللصين ..
تأمل هذه الحقيقة التي تؤكد إنه هو الذي حدد وقت موته .. إنه لم يقل هذه العبارة « قد أُكمل » بصوت هامس متقطع كما كان متوقعاً نتيجة لإعياء جسده الشـديد .. كلا .. كلا بل قالها بصرخة عظيمة .. يقول إنجيل مرقس :
« فصرخ يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح »
( مر 5 1 : 7 3 ) بهذه الصرخة المدوية أعلن الرب انتصاره العظيم ، إنه أبطل قوة الخطية وحطم مملكة إبليس .. لقد أسلم الروح وصيحة النصرة علي شفتيه ..
يقول إنجيل يوحنا إنه « نكّس رأسه وأسلم الروح » ( يو 9 1 : 0 3 ) .. لقد أسلم الرب الروح وهو في ملء الراحة !! .. فعبارة « نكّس رأسه » باللغة اليونانية التي دُونت بها أسفار العهد الجديد كانت تُستخدم وقتذاك للذهاب إلي النوم .. للراحة (5 )..
وفي إنجيليّ متي ولوقا نري بوضوح استخدام هذه العبارة بهذا المعني ، وذلك في كلمات الرب يسوع التي تحدث بها عن نفسه قائلاً : « ابن الإنسان ليس له أين يسند رأسه » ( مت 8 : 0 2 ، لو 9 : 8 5 ) ففي الأصل اليوناني عبارة « يسند رأسه » هي نفسها عبارة « نكس رأسه » التي وصف بها يوحنا الرب يسوع في اللحظات الأخيرة التي سبقت موته ..
الرأس التي لم تجد مكاناً لتستريح فيه علي أرضنا ، أخيراً وجدته .. علي الصليب ..
صرخ الرب « قد أُكمـل » وأسند رأسه مثل المتعب الذي يسند رأسـه ليستريح مع نهاية رحلة شاقة ..
قديماً قرر داود ألا يعطي جسده راحة حتي يقيم مسكناً لتابوت العهد الذي يرمز إلي حضور الله.. استمع إليه وهو يقول « لا أدخل خيمة بيتي لا أصعد علي سرير فراشي . لا أعطي وسناً [ نعاساً ] لعينيَّ ولا نوماً لأجفاني .. [ إلي أن ] أجد مقاماً للرب » ( مز 2 3 1 : 3 ـ 5 ) ..
****************
38:15 "وَانْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ إِلَى اثْنَينِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ".
يذكر هذه الحادثة الثلاثة الإنجيليون، وفي معناها تكشف عن انفتاح قدس الأقداس، أي قلب الله، للعالم أي الأُمم. بمعنى أن حجاب الغضب الفاصل بين الله والإنسان قد انكسر بانكسار جسد الابن على الصليب. لذلك يقول القديس بولس في سفر العبرانيين: "فإذ لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع طريقاً كرَّسه لنا حديثاً حيًّا بالحجاب أي جسده" (عب 19:10و20). فموت المسيح حُسب بحد ذاته قوة أزالت العقوبة باللعن والموت معاً عن الإنسان، وبارتفاع العقوبة من الوسط تصالح الله مع الإنسان، فرُفع حجاب الغضب الفاصل بين الله والإنسان الذي صنعه الإنسان بعصيانه وتعدِّيه وخطاياه ولفَّه الموت بالسواد. والآن لا خطية بعد ولا موت بل نعمة في بر المسيح وحياة أبدية:
+ "إن الله كان في المسيح مُصالِحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم ..." (2كو 19:5)
+ "لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحداً ونقض حائط السياج المتوسط، أي العداوة، مُبطلاً بجسده ناموس الوصايا في فرائض، لكي يخلق الاثنين في نفسه إنساناً واحداً جديداً صانعاً سلاماً. ويُصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلاً العداوة به." (أف 2: 14-16)
وينبغي أن ننتبه إلى طريقة القديس مرقس في ضم تسليم الروح إلى انشقاق الحجاب، إذ جعل موت المسيح ذا تعبير لحظي شديد الوقع، وعلى مستوى عيني منظور، وفي أقدس ما يملك اليهود وهو الحجاب الذي يفصل قدس الأقداس عن القدس، حيث قدس الأقداس هو المكان الذي يتراءى فيه يهوه الإله العظيم! إذن، فبموت المسيح صار الله ظاهراً للجميع.