Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم المؤرخ / عزت اندراوس

القديس يوحنـا المعمدان

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
إستشهاد المعمدان بقلعة مكاور

 

القديس يوحنـا المعمدان الوكيل الأمين
بقلم : المتنيح‏ الأنبـا ‏أغريغوريوس


هذا‏ ‏الرجل‏ ‏الذي‏ ‏تجمل‏ ‏بالفضائل‏, ‏والذي‏ ‏كان‏ ‏له‏ ‏المدح‏ ‏الحقيقي‏ ‏من‏ ‏الله‏ ‏نفسه‏, ‏وما‏ ‏أسعد‏ ‏الإنسان‏ ‏الذي‏ ‏يكون‏ ‏له‏ ‏المدح‏ ‏من‏ ‏الله‏.‏

يقول‏ ‏الكتاب‏ ‏المقدس‏ ‏في‏ ‏سفر‏ ‏يشوع‏ ‏بن‏ ‏سيراخ‏: ‏لا‏ ‏تغبط‏ ‏أحدا‏ ‏قبل‏ ‏موته‏ (11:30), ‏إنما‏ ‏قلة‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏الذين‏ ‏في‏ ‏حياتهم‏ ‏ينالهم‏ ‏مدح‏ ‏من‏ ‏الله‏, ‏وإذا‏ ‏كنا‏ ‏نقبل‏ ‏شهادة‏ ‏الناس‏ ‏فشهادة‏ ‏الله‏ ‏أعظم‏.‏
يوحنا‏ ‏المعمدان‏ ‏قبل‏ ‏شهادة‏ ‏من‏ ‏الله‏, ‏شهادة‏ ‏من‏ ‏فم‏ ‏ربنا‏ ‏يسوع‏ ‏المسيح‏, ‏لأن‏ ‏يوحنا‏ ‏كان‏ ‏طرازا‏ ‏من‏ ‏القديسين‏ ‏فهم‏ ‏مهمته‏ ‏جيدا‏, ‏ولم‏ ‏ينحرف‏ ‏أبدا‏ ‏عن‏ ‏مهمته‏. ‏لم‏ ‏تخدعه‏ ‏كلمات‏ ‏الإطناب‏ ‏والمديح‏ ‏التي‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏قد‏ ‏سمعها‏ ‏من‏ ‏محبيه‏ ‏ومريديه‏, ‏لأنه‏ ‏كان‏ ‏إنسانا‏ ‏شاخصا‏ ‏إلي‏ ‏السماويات‏, ‏وكان‏ ‏زاهدا‏ ‏في‏ ‏الأرضيات‏, ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏هدفه‏ ‏أبدا‏ ‏ماذا‏ ‏يقول‏ ‏الناس‏ ‏عنه‏, ‏فهم‏ ‏يوحنا‏ ‏المعمدان‏ ‏أنه‏ ‏خادم‏ ‏لسيده‏, ‏وأنه‏ ‏لم‏ ‏يأت‏ ‏ليكون‏ ‏زعيما‏ ‏ولا‏ ‏رئيسا‏ ‏ولا‏ ‏ليجمع‏ ‏الناس‏ ‏من‏ ‏حوله‏, ‏وإنما‏ ‏جاء‏ ‏عالما‏ ‏بأنه‏ ‏خادم‏ ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏المفهوم‏ ‏الذي‏ ‏ينبغي‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏لكل‏ ‏مسيحي‏ ‏بعامة‏, ‏ولرجال‏ ‏الدين‏ ‏بخاصة‏. ‏رجل‏ ‏الدين‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏بالحقيقة‏ ‏رجل‏ ‏دين‏ ‏ينحصر‏ ‏همه‏ ‏في‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏خادما‏ ‏لسيد‏ ‏واحد‏, ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏السيد‏ ‏الواحد‏ ‏وليس‏ ‏غيره‏ ‏سيد‏.‏
رجل‏ ‏الدين‏ ‏الوكيل‏ ‏الأمين‏ ‏المؤتمن‏ ‏علي‏ ‏خدمته‏, ‏يفهم‏ ‏أنه‏ ‏بالحقيقة‏ ‏خادم‏ ‏لسيده‏, ‏وأنه‏ ‏دائما‏ ‏يكون‏ ‏حيث‏ ‏يكون‏ ‏سيده‏, ‏وأنه‏ ‏ينضوي‏ ‏إلي‏ ‏الناحية‏ ‏التي‏ ‏يكون‏ ‏فيها‏ ‏سيده‏, ‏ولو‏ ‏اقتضي‏ ‏الأمر‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الناس‏ ‏ضد‏ ‏سيده‏ ‏كان‏ ‏هو‏ ‏بالتالي‏ ‏ضد‏ ‏الناس‏, ‏لأنه‏ ‏لا‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يجمع‏ ‏زعامة‏ ‏لنفسه‏, ‏إنما‏ ‏كل‏ ‏شرفه‏ ‏وكل‏ ‏كرامته‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏إلي‏ ‏جانب‏ ‏سيده‏ ‏خادما‏ ‏له‏ ‏بالأمانة‏ ‏والصدق‏.‏
ورجل‏ ‏الدين‏ ‏الحق‏ ‏ليس‏ ‏خادما‏ ‏للشعب‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏خدمته‏ ‏لسيده‏ ‏أولا‏, ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏المفهوم‏ ‏الصحيح‏ ‏الذي‏ ‏فهمه‏ ‏يوحنا‏ ‏المعمدان‏, ‏لذلك‏ ‏ما‏ ‏رأيناه‏ ‏أبدا‏ ‏في‏ ‏حياته‏ ‏ينحاز‏ ‏لرأي‏ ‏الناس‏ ‏فيه‏, ‏ولا‏ ‏لكلامهم‏ ‏عنه‏, ‏ما‏ ‏رأيناه‏ ‏أبدا‏ ‏يتحمس‏ ‏لكلام‏ ‏تلاميذه‏ ‏الذين‏ ‏أرادوا‏ ‏أن‏ ‏يثيروه‏, ‏بأن‏ ‏يقولوا‏ ‏له‏ ‏إن‏ ‏الناس‏ ‏انصرفوا‏ ‏عنه‏ ‏إلي‏ ‏سيده‏, ‏فكان‏ ‏يوحنا‏ ‏يقول‏ ‏أنا‏ ‏نفسي‏ ‏قلت‏ ‏لكم‏ ‏لست‏ ‏أنا‏ ‏المسيح‏, ‏إنما‏ ‏أنا‏ ‏مرسل‏ ‏أمامه‏, ‏الذي‏ ‏يأتي‏ ‏من‏ ‏فوق‏ ‏هو‏ ‏فوق‏ ‏الجميع‏, ‏والذي‏ ‏من‏ ‏الأرض‏ ‏هو‏ ‏أرضي‏ ‏ومن‏ ‏الأرض‏ ‏يتكلم‏, ‏لذلك‏ ‏ينبغي‏ ‏أن‏ ‏المسيح‏ ‏يزيد‏ ‏وإني‏ ‏أنا‏ ‏أنقص‏, ‏لست‏ ‏أنا‏ ‏عريس‏ ‏الكنيسة‏ ‏إنما‏ ‏أنا‏ ‏صديق‏ ‏العريس‏ ‏الذي‏ ‏يفرح‏ ‏لصوت‏ ‏العريس‏, ‏إذن‏ ‏إن‏ ‏كان‏ ‏الشعب‏ ‏كله‏ ‏قد‏ ‏ذهب‏ ‏وراء‏ ‏سيدي‏ ‏فأنا‏ ‏أفرح‏ ‏وفرحي‏ ‏الآن‏ ‏قد‏ ‏كمل‏. ‏ما‏ ‏أعظم‏ ‏يوحنا‏ ‏الذي‏ ‏لم‏ ‏ينحرف‏ ‏بتاتا‏ ‏عن‏ ‏فهم‏ ‏رسالته‏, ‏لذلك‏ ‏استحق‏ ‏أن‏ ‏ينال‏ ‏المديح‏ ‏من‏ ‏المسيح‏ ‏مدحا‏ ‏جعله‏ ‏أعظم‏ ‏من‏ ‏نبي‏, ‏وأنه‏ ‏لم‏ ‏يقم‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏المولودين‏ ‏من‏ ‏النساء‏ ‏من‏ ‏هو‏ ‏أعظم‏ ‏منه‏, ‏وليس‏ ‏إلا‏ ‏الأصغر‏ ‏منه‏ ‏سنا‏ ‏وهو‏ ‏سيده‏ ‏الذي‏ ‏هو‏ ‏أعظم‏ ‏منه‏.‏
* الصورة: الذراع اليمنى للسابق المجيد يوحنا المعمدان، وهي محفوظة في دير "ديونيسيو" في آثوس الجبل المقدّس.
"لم يقُم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان" (متى ١١: ١١).

بهذا الكلام الجازم شهد الرب يسوع نفسه لصابغه يوحنا. شهادة الرب تكفيه شرفاً وإكراماً، ومن بعدها يُمسي الكلام عن يوحنا المعمدان عَسِراً مهما أجاد. بيد أننا، وأمانة للسابق المجيد في ذكرى مَولده، سوف نحاول الخوض في نص إنجيلي يحكي شهادة يوحنا الأخيرة ليسوع، قبيل أسره ومن ثم استشهاده (راجع يوحنا ٣: ٢٦-٣١). فقد جاء تلاميذ المعمدان إلى معلمهم متذمرين من أن "الذي كان معك في عبر الأردن الذي أنت قد شهدت له، هو يعمّد والجميع يأتون إليه". واضح أنه لم يبقَ في أذهان هؤلاء شيء من ما سبق فقاله المعمدان لجهة الأقوى الآتي بعده، ومن ما شهد به المعمدان لجهة رؤية الروح القدس وسماع صوت الآب شهادة للمسيح في الأردن. ولا ترك فيهم شخص المسيح نفسه شيئاً من تأثير. جُلَّ ما كان يشغلهم استنهاض معلّمهم علّه يدافع عن مكانته. فهم بقولهم "هوذا الذي كان معك" يعبّرون عن ما فهموه تساوياً بين يوحنا ويسوع، وبقَولة "أنت قد شهدت له" يُبرزون عمل المعمدان إحساناً تجاه المسيح يسوع، بل تنازلاً كتنازل المعلّم الشاهد لتلميذه. ويبقى أكثر ما أثار انزعاجهم أن المسيح بات "يعمّد والجميع يأتون إليه". بمعنى أن المسيح أمسى منافساً لمعلّمهم ومهدّداً لوظيفته. لا ريب أن خلفية هذا التهويل ليست مجرّد غيرة على معلّم أحبّوه وأكرموه، سيّما وأن المسلك نفسه سلكه الفريسيون الحاقدون فيما بعد، لما واجهوا الموقف نفسه (يوحنا ١٢: ١٩). كلام التلاميذ كان يمكن أن يبث سم الأهواء في نفس المعمدان، لو لم يكن هذا العظيم مرسلاً بحق من الله ومُقاداً بروحه القدوس، تنير الأمانة دربه ويحمي الاتضاع نفسَه. هذا يتجلى بَيّنا في رد المعمدان، إذ نسمعه يفرح بدلاً من أن ينزعج، بل يعتبر تقرير تلاميذه بشارة سارة لجهة أن الذي أتى هو ليعد له الطريق، بدأ تحقيق رسالته والكل صاروا يأتون إليه.

"لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئاً إن لم يكن قد أعطي له من السماء"، يقول المعمدان. وهو بهذا الكلام لا يبتغي الرد على تلاميذه وحسب، بل الارتقاء بتفكيرهم الأرضي إلى مستوى السماويات موضحاً القاعدة الأساسية التي تقوم عليها الرسالة النبوية عموماً. وهو بهذا القول يعيد لهم تحديد علاقته بالمسيح كسابق يعد له الطريق وصابغ يسهم في الإعلان عنه. أنا لن أدّعي لنفسي سلطة لم تُعطَ لي، ولا الناصري يمارس سلطاناً لو لم يتلقّاه من الله، يقول المعمدان مجيباً. لا يكتفي المعمدان بهذا الإيضاح بل يستطرد مذكراً تلاميذه، ومبكّتاً إياهم ضمناً، أنه سبق فقال علانية إنه ليس المسيح بل "مرسل أمامه" وحسب. المعمدان أعلن منذ البداية وقتية ومحدودية رسالته، وهو بهذا التذكير يضع تلاميذه شهوداً على أمانته وعلى سواد قلوبهم معاً. لا يكتفي المعمدان بهذا القدر بل يصف الناصري بـ"المسيح" علانية، إزاء التلاميذ الذين أشاروا إلى الناصري بعبارات "هوذا، هو، له، إليه". السابق الصادق الأمين يواجه المواربة بالصدق والإبهام المتعمَّد باليقين النبوي.

هنا يبدأ الإعلان يرتدي طابعاً أعمق وأغنى، رداً محبوكاً بلغة التوراة والأنبياء، وكأنه يشهّد إعلانات العهد القديم على مسيانية الناصري، بقوله "من له العروس فهو العريس". فالأنبياء القدامى ما برحوا يصفون العلاقة بين الله وإسـرائيل كعريس وعروس (هوشع ٢: ١٨، حزقيال ١٦: ٨، إشعياء ٥٤: ٤). والمعمدان لا يصف المسيح بالعريس إيضاحاً، بل يصوغ العبارة بصيغة البديهية ليكون للسامع بمقدار استنارته أن يقرر: من هو العريس ومن هي العروس. المعمدان في إنجيل يوحنا صورة للنبي المخلص الملتزم رسالته إلى أبعد الحدود. فهو ملأ بصوته الصارخ برية العالم، ومهّد الطريق للآتي بعده بتقواه وطُهره وصدق شجاعته، كارزاً بحرارة التوبة حاثاً على الاغتسال من أوساخ الجسد وأهوائه. وهو جاء بروح إيليا خير خاتمة لتاريخ نبوي طويل. لهذه الأسباب كلها أوتي المعمدان من لدن الله مرسله مهمة تجاوزت إعداد الطريق للعريس الآتي، إلى إعداد العروس التي فقدت من طهرها الكثير. لكن لا بالعنف والتوبيخ والإنذارات كعهد قدامى الأنبياء، بل بغسل الضمائر والأجساد، بتقويم المسائر العوجاء وبالحثّ على التوبة وترقيق القلوب وتهيأتها لاقتبال بركات "الآتي باسم الرب".

بهذا يكون هذا العظيم قد أتم ما أنيط به، بقدر ما أتاحت له العروس، ولهذا يسمي نفسه صديق العريس الذي "يفرح فرحاً من أجل صوت العريس". أمانة المعمدان وغيرته الفائقتين استحقتا له نعمة التعرّف على صوت المسّيا – العريس – ويكفي النبي كرامة أن يستحق مصادقة العريس. أما وأن يسمع النبي صوت من تنبأ عنه فهو إكرام ناله المعمدان دون سواه من أنبياء الله السالفين. هؤلاء سمعوا اليوم بأذن المعمدان صوت العريس الذي أتوا يتنبأون عنه بغير سماع ويصفونه بغير مشاهدة. بعين المعمدان يرونه اليوم، وبأذن المعمدان يسمعون صوته. خاتمة أنبياء العهد القديم يقول صادقاً "الآن قد اكتمل فرحي"، لأن فرحه هو فرح كل أسلافه من الأنبياء والآباء ورؤساء الآباء الذين آلت إليهم المواعيد فآمنوا بها وجاهدوا من أجلها وماتوا على رجاء تحقيقها. المعمدان أتى بروح إيليا وتكلم بفم الأنبياء أجمعين، وأكرمه الله بالفرح الكامل، فرح معاينة النبوءة تتحقق على حياته.

يختم المعمدان إعلانه النبوي بتواضع ما بعده تواضع عندما يقول "ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص"، تأكيداً على كل ما سبق وامّحاءً طوعياً جباراً هو سمة من سمات من كانوا من طينة السماويين. فبظهور من تركّزت فيه كل النبوات يأفل عهد الأنبياء. المصابيح التي أنارت عتمة الليل تُطفأ متى طلع النهار، والنجوم التي تنير درب المسافرين ليلاً تغرب متى طلعت الشمس. هذه كانت آخر نبوءة للمعمدان، والإنجيلي يوحنا الحبيب يرى فيها خاتمة لا للأنبياء وحسب بل للعهد القديم كلّه. عهد التمهيد والإعداد اختُتِم، وعهد النور والحياة الأبدية أشرق وله ينبغي أن يزيد. أما أن يظهر المعمدان بكلماته هذه على هذا القدر من الأمانة والاتضاع، فهذا ما لا تعجُّب فيه البتة. فالسابق الأمين الذي ما أطفأ الأسر ولا الاغتيال غيرته يعرف أن "الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع"، وتكفيه الأمانة فرحاً.
المصدر : الفيس بوك Rvd Nektarios Khairallah


روحانية‏ ‏يوحنا‏ ‏وتقواه‏
لو‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يوحنا‏ ‏المعمدان‏ ‏أثبت‏ ‏حقا‏ ‏أنه‏ ‏خادم‏ ‏أمين‏ ‏لسيده‏. ‏ما‏ ‏كان‏ ‏يوحنا‏ ‏ينال‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏المدح‏, ‏ومثل‏ ‏هذه‏ ‏الكرامة‏ ‏من‏ ‏رب‏ ‏المجد‏ ‏نفسه‏, ‏في‏ ‏حياته‏ ‏وقبل‏ ‏أن‏ ‏يموت‏ ‏ويذهب‏ ‏إلي‏ ‏العالم‏ ‏الآخر‏, ‏لأن‏ ‏رب‏ ‏المجد‏ ‏كان‏ ‏يعلم‏ ‏أن‏ ‏يوحنا‏ ‏ليس‏ ‏قصبة‏ ‏مرضوضة‏, ‏ليس‏ ‏إنسانا‏ ‏يتزعزع‏, ‏ليس‏ ‏هناك‏ ‏خطر‏ ‏علي‏ ‏حياته‏, ‏من‏ ‏أن‏ ‏يعود‏ ‏وينحرف‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏صار‏ ‏في‏ ‏طريق‏ ‏السماء‏. ‏فشهادة‏ ‏المسيح‏ ‏عنه‏ ‏في‏ ‏حياته‏ ‏ضمان‏ ‏علي‏ ‏أن‏ ‏يوحنا‏ ‏كان‏ ‏وسيظل‏ ‏إلي‏ ‏الأبد‏ ‏أمينا‏ ‏لسيده‏ ‏خادما‏ ‏لمعلمه‏, ‏ثابتا‏ ‏علي‏ ‏مبدأه‏, ‏ليس‏ ‏من‏ ‏تلك‏ ‏الطبول‏ ‏التي‏ ‏يهزها‏ ‏الهواء‏, ‏ولكنه‏ ‏ذاك‏ ‏العمود‏ ‏القائم‏ ‏ثابتا‏ ‏راسخا‏ ‏بالعزة‏ ‏والكرامة‏, ‏لأنه‏ ‏منذ‏ ‏طفولة‏ ‏حياته‏ ‏كان‏ ‏شاخصا‏ ‏في‏ ‏الإلهيات‏ ‏متعلقا‏ ‏بالسماويات‏, ‏ذاق‏ ‏الجمال‏ ‏الروحاني‏ ‏وحسب‏ ‏كل‏ ‏الوجود‏ ‏زهيدا‏, ‏كان‏ ‏يوحنا‏ ‏ذلك‏ ‏الناسك‏ ‏الذي‏ ‏شهد‏ ‏عنه‏ ‏رب‏ ‏المجد‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يأكل‏ ‏خبزا‏ ‏ولا‏ ‏يشرب‏ ‏خمرا‏, ‏فقال‏ ‏الناس‏ ‏عنه‏ ‏أن‏ ‏به‏ ‏شيطانا‏, ‏لا‏ ‏يأكل‏ ‏أكل‏ ‏الناهمين‏ ‏ولا‏ ‏يشرب‏ ‏شراب‏ ‏المتلذذين‏ ‏بالعالم‏, ‏وإنما‏ ‏يأكل‏ ‏بالقدر‏ ‏الذي‏ ‏يقوم‏ ‏به‏ ‏جسده‏ ‏وليشرب‏ ‏بالقدر‏ ‏الذي‏ ‏تقتضيه‏ ‏صحة‏ ‏الجسد‏, ‏إنما‏ ‏لا‏ ‏يزيد‏ ‏عن‏ ‏ذلك‏ ‏لأنه‏ ‏ليس‏ ‏مستعبدا‏ ‏للذة‏ ‏ولا‏ ‏للشهوة‏, ‏وإنما‏ ‏صارت‏ ‏الشهوة‏ ‏مستعبدة‏ ‏له‏, ‏وصار‏ ‏هو‏ ‏بروحانيته‏ ‏عاليا‏ ‏عليها‏, ‏منذ‏ ‏نشأته‏ ‏الأولي‏ ‏في‏ ‏طفولته‏, ‏نشأ‏ ‏ذلك‏ ‏الإنسان‏ ‏الزاهد‏ ‏الناسك‏, ‏الذي‏ ‏عاش‏ ‏حياة‏ ‏صارمة‏ ‏كالشوك‏ ‏الذي‏ ‏ينبت‏ ‏في‏ ‏الأرض‏ ‏الصحراء‏ ‏الجرداء‏, ‏ولذلك‏ ‏كانت‏ ‏شخصيته‏ ‏قويمة‏ ‏سليمة‏ ‏ناشفة‏ ‏يابسة‏ ‏عنيدة‏ ‏في‏ ‏الحق‏, ‏لا‏ ‏يلين‏ ‏لأنه‏ ‏عرف‏ ‏أن‏ ‏يكفر‏ ‏بجسده‏, ‏وأن‏ ‏يكفر‏ ‏بحياته‏ ‏الأرضية‏, ‏وأن‏ ‏يبغض‏ ‏نفسه‏, ‏وأن‏ ‏يكون‏ ‏ضدا‏ ‏لنفسه‏ ‏في‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏تشتهيه‏ ‏من‏ ‏أرضيات‏ ‏ومن‏ ‏شهوات‏ ‏ومن‏ ‏ميول‏ ‏ومن‏ ‏أهواء‏, ‏ومن‏ ‏رغبات‏ ‏أرضية‏ ‏جسدانية‏.‏
كان‏ ‏يوحنا‏ ‏إنسانا‏ ‏لكنه‏ ‏كان‏ ‏ملاكا‏, ‏ولعله‏ ‏بهذا‏ ‏أفضل‏ ‏من‏ ‏ملاك‏, ‏لأن‏ ‏الملاك‏ ‏ليس‏ ‏له‏ ‏جسد‏ ‏يميل‏ ‏به‏ ‏إلي‏ ‏شهوة‏ ‏أرضية‏, ‏لكن‏ ‏يوحنا‏ ‏كان‏ ‏له‏ ‏جسد‏ ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏عاش‏ ‏ملاكا‏, ‏ملاكا‏ ‏في‏ ‏مهمته‏ ‏كرسول‏ ‏لله‏ ‏فكان‏ ‏أمينا‏ ‏لرسالته‏, ‏وملاكا‏ ‏في‏ ‏طهارته‏ ‏وقداسة‏ ‏سيرته‏ ‏وبتولته‏ ‏وروحانية‏ ‏حياته‏, ‏لذلك‏ ‏لا‏ ‏نعجب‏ ‏إذا‏ ‏كنا‏ ‏نراه‏ ‏صارما‏ ‏في‏ ‏الحق‏, ‏يمكنه‏ ‏أن‏ ‏يوبخ‏ ‏بالحق‏, ‏وكان‏ ‏يجئ‏ ‏إليه‏ ‏جموع‏ ‏فكان‏ ‏يرشد‏ ‏كل‏ ‏واحد‏ ‏من‏ ‏البشر‏ ‏إلي‏ ‏واجباته‏ ‏الروحية‏, ‏يقول‏ ‏للعسكر‏ ‏وللجند‏: ‏لا‏ ‏تستوفوا‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏لكم‏, ‏ويقول‏ ‏للناس‏ ‏جميعا‏: ‏اهربوا‏ ‏من‏ ‏الغضب‏ ‏الآتي‏, ‏ها‏ ‏قد‏ ‏وضعت‏ ‏الفأس‏ ‏علي‏ ‏أصل‏ ‏الشجرة‏, ‏فكل‏ ‏شجرة‏ ‏لا‏ ‏تصنع‏ ‏ثمرا‏ ‏جيدا‏ ‏تقطع‏ ‏وتلقي‏ ‏في‏ ‏النار‏, ‏وقال‏ ‏لهيرودس‏: ‏لا‏ ‏يحق‏ ‏لك‏ ‏أن‏ ‏تأخذ‏ ‏امرأة‏ ‏أخيك‏ ‏وهو‏ ‏حي‏ ‏زوجة‏ ‏لك‏, ‏كيف‏ ‏يجوز‏ ‏لرجل‏ ‏صغير‏ ‏في‏ ‏قيمته‏ ‏الاجتماعية‏, ‏أن‏ ‏يقف‏ ‏موقف‏ ‏القوة‏ ‏أمام‏ ‏هيرودس‏ ‏وهو‏ ‏ملك‏, ‏وأي‏ ‏ملك‏ ‏كان‏ ‏هيرودس؟‏!, ‏كان‏ ‏ملكا‏ ‏طاغيا‏ ‏مستبدا‏, ‏كانت‏ ‏شهوته‏ ‏هي‏ ‏شريعة‏ ‏حياته‏, ‏وما‏ ‏كان‏ ‏يتورع‏ ‏عن‏ ‏أن‏ ‏يقتل‏ ‏أقرب‏ ‏القريبين‏ ‏إليه‏, ‏لو‏ ‏تعرض‏ ‏له‏ ‏وقاومه‏ ‏في‏ ‏رغبة‏ ‏أو‏ ‏في‏ ‏شهوة‏. ‏هذا‏ ‏الملك‏ ‏المستبد‏ ‏الطاغية‏ ‏وجد‏ ‏في‏ ‏يوحنا‏ ‏صوتا‏ ‏صارخا‏ ‏ضد‏ ‏شره‏ ‏وضد‏ ‏طغيانه‏, ‏ولعل‏ ‏هيرودس‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏ ‏في‏ ‏حياته‏ ‏يسمع‏ ‏إنسانا‏ ‏صغيرا‏ ‏يقول‏ ‏له‏ ‏لا‏ ‏يحل‏ ‏لك‏, ‏كيف‏ ‏يمكن‏ ‏للإنسان‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هكذا‏ ‏قويا‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏أولا‏ ‏قويا‏ ‏علي‏ ‏نفسه‏, ‏ما‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏الإنسان‏ ‏طاهرا‏, ‏وما‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏صارما‏ ‏علي‏ ‏ذاته‏, ‏لا‏ ‏يمكنه‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏صارما‏ ‏في‏ ‏الحق‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏قد‏ ‏رعي‏ ‏الحق‏ ‏أولا‏ ‏مع‏ ‏نفسه‏, ‏وصل‏ ‏صوت‏ ‏يوحنا‏ ‏إلي‏ ‏هيرودس‏ ‏يقول‏ ‏الإنجيل‏: ‏وكان‏ ‏هيرودس‏ ‏يهاب‏ ‏يوحنا‏, ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يرفع‏ ‏سيفه‏ ‏ضد‏ ‏يوحنا‏, ‏وهو‏ ‏الذي‏ ‏قتل‏ ‏أمه‏ ‏وقتل‏ ‏أخته‏ ‏وقتل‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏كان‏ ‏يتعرض‏ ‏له‏.‏
مهابة‏ ‏يوحنا‏ ‏المعمدان‏:‏
كيف‏ ‏يقول‏ ‏الكتاب‏ ‏إن‏ ‏هيرودس‏ ‏كان‏ ‏يهاب‏ ‏يوحنا؟‏ ‏ماذا‏ ‏في‏ ‏يوحنا‏ ‏يهابه‏ ‏هيرودس؟‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يوحنا‏ ‏صاحب‏ ‏عزة‏, ‏ولا‏ ‏كان‏ ‏يوحنا‏ ‏صاحب‏ ‏السعادة‏, ‏وإنما‏ ‏كان‏ ‏يوحنا‏ ‏صاحب‏ ‏المبدأ‏, ‏وعشقه‏ ‏للمبدأ‏ ‏وحرارته‏ ‏نحو‏ ‏الحق‏ ‏جعلته‏ ‏قويا‏, ‏وجعلته‏ ‏مرهوب‏ ‏الجانب‏, ‏وجعلت‏ ‏كل‏ ‏كلمة‏ ‏يقولها‏ ‏يوحنا‏ ‏محفوفة‏ ‏بالمهابة‏ ‏والاحترام‏ ‏والقداسة‏, ‏ومن‏ ‏شأنها‏ ‏أن‏ ‏يخضع‏ ‏الناس‏ ‏لها‏ ‏توقيرا‏ ‏واحتراما‏ ‏وتقديسا‏.‏
ما‏ ‏كان‏ ‏يوحنا‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏له‏ ‏هذه‏ ‏المهابة‏ ‏إلا‏ ‏لأنه‏ ‏أولا‏ ‏كان‏ ‏يهاب‏ ‏الله‏, ‏وكان‏ ‏يخاف‏ ‏الله‏, ‏ورأس‏ ‏الحكمة‏ ‏مخافة‏ ‏الله‏. ‏ما‏ ‏كان‏ ‏ليوحنا‏ ‏مطمع‏ ‏في‏ ‏الدنيا‏, ‏ما‏ ‏كانت‏ ‏له‏ ‏شهوة‏ ‏في‏ ‏طعام‏ ‏أو‏ ‏شراب‏ ‏أو‏ ‏مسكن‏ ‏أو‏ ‏لباس‏, ‏كان‏ ‏طعامه‏ ‏جرادا‏ ‏وعسلا‏ ‏بريا‏, ‏وكان‏ ‏لباسه‏ ‏من‏ ‏وبر‏ ‏الإبل‏, ‏وكانت‏ ‏منطقة‏ ‏من‏ ‏جلد‏ ‏علي‏ ‏حقويه‏, ‏وما‏ ‏كان‏ ‏يوحنا‏ ‏يطمع‏ ‏أبدا‏ ‏في‏ ‏أن‏ ‏يستبدل‏ ‏وبر‏ ‏الإبل‏ ‏بالقز‏ ‏أو‏ ‏بالحرير‏, ‏هوذا‏ ‏الذين‏ ‏يلبسون‏ ‏الثياب‏ ‏الناعمة‏ ‏في‏ ‏قصور‏ ‏الملوك‏, ‏ويوحنا‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏يطمع‏ ‏أن‏ ‏يصير‏ ‏ملكا‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الطراز‏, ‏يوحنا‏ ‏خادم‏, ‏ويريد‏ ‏أن‏ ‏يبقي‏ ‏إلي‏ ‏الأبد‏ ‏خادما‏ ‏أمينا‏ ‏لسيده‏ ‏فما‏ ‏كان‏ ‏هناك‏ ‏منصب‏ ‏ولا‏ ‏درجة‏, ‏ولا‏ ‏كرامة‏ ‏أرضية‏, ‏أو‏ ‏شيئا‏ ‏يتطلع‏ ‏إليه‏ ‏يوحنا‏ ‏ليغير‏ ‏من‏ ‏أجله‏ ‏مبادئه‏, ‏أبدا‏, ‏وعلي‏ ‏قول‏ ‏القديس‏ ‏أوغسطينوس‏: ‏رأيت‏ ‏نفسي‏ ‏علي‏ ‏قمة‏ ‏العالم‏ ‏يوم‏ ‏أن‏ ‏سقطت‏ ‏من‏ ‏قلبي‏ ‏كل‏ ‏رغبة‏.‏
الإنسان‏ ‏الذي‏ ‏لا‏ ‏تستعبده‏ ‏شهوة‏ ‏أو‏ ‏رغبة‏ ‏أرضية‏ ‏في‏ ‏مسكن‏ ‏أو‏ ‏في‏ ‏طعام‏ ‏أو‏ ‏في‏ ‏لباس‏ ‏أو‏ ‏في‏ ‏شرف‏ ‏أو‏ ‏في‏ ‏كرامة‏ ‏أو‏ ‏في‏ ‏منصب‏, ‏أو‏ ‏في‏ ‏أي‏ ‏درجة‏ ‏أيا‏ ‏كانت‏, ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الإنسان‏ ‏الذي‏ ‏داس‏ ‏تحت‏ ‏قدميه‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الرغبات‏ ‏ووقف‏ ‏فوقها‏, ‏وصار‏ ‏روحانيا‏ ‏وقريبا‏ ‏إلي‏ ‏الروح‏ ‏وعالم‏ ‏الأرواح‏, ‏فلا‏ ‏تغريه‏ ‏أبدا‏ ‏هذه‏ ‏الجسدانيات‏, ‏بل‏ ‏يتطلع‏ ‏إليها‏ ‏محتقرا‏ ‏أباطيل‏ ‏العالم‏, ‏ماذا‏ ‏يصنع‏ ‏بي‏ ‏هيرودس؟‏ ‏وماذا‏ ‏يصنع‏ ‏الناس‏ ‏بي؟‏.‏
كان‏ ‏يوحنا‏ ‏هو‏ ‏الوكيل‏ ‏الأمين‏ ‏الحكيم‏ ‏المخلص‏, ‏الذي‏ ‏تطهر‏ ‏قلبه‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏رغبة‏ ‏بشرية‏, ‏ومن‏ ‏كل‏ ‏شهوة‏ ‏أرضية‏ ‏ومن‏ ‏كل‏ ‏ميل‏ ‏جسداني‏, ‏انصرف‏ ‏كله‏ ‏إلي‏ ‏الروحانيات‏ ‏وتروحن‏ ‏كله‏, ‏ولم‏ ‏يعد‏ ‏تجذبه‏ ‏جاذبيات‏ ‏الأرض‏ ‏ولا‏ ‏جاذبيات‏ ‏الشهوة‏ ‏الجسدية‏, ‏إنما‏ ‏علا‏ ‏فوقها‏ ‏لأنه‏ ‏كان‏ ‏دائما‏ ‏شاخصا‏ ‏إلي‏ ‏السمائيات‏.‏

يوحنا‏ ‏المثل‏ ‏والنموذج‏
هذا‏ ‏و‏ ‏يوحنا‏ ‏يقف‏ ‏أمامنا‏ ‏بقامته‏ ‏الممدودة‏, ‏وحياته‏ ‏السامقة‏ ‏العالية‏ ‏مثلا‏ ‏ونموذجا‏, ‏يقف‏ ‏أمامنا‏ ‏نتعلم‏ ‏منه‏ ‏كيف‏ ‏يكون‏ ‏الإصرار‏ ‏علي‏ ‏الحق‏, ‏كيف‏ ‏تكون‏ ‏محبة‏ ‏الحق‏, ‏كيف‏ ‏يكون‏ ‏الاتجاه‏ ‏إلي‏ ‏الله‏, ‏كيف‏ ‏يكون‏ ‏الانصراف‏ ‏إليه‏ ‏وحده‏, ‏كيف‏ ‏يكون‏ ‏تكريس‏ ‏الحياة‏ ‏روحا‏ ‏وجسدا‏ ‏للسيد‏ ‏الواحد‏, ‏كيف‏ ‏يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏بحق‏ ‏عبدا‏ ‏وخادما‏ ‏لسيد‏ ‏واحد‏. ‏يوم‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏أنت‏ ‏هذا‏ ‏الإنسان‏, ‏قلبك‏ ‏يمتلئ‏ ‏بالشجاعة‏ ‏وبالقوة‏ ‏ولا‏ ‏تخشي‏ ‏أحدا‏, ‏كيف‏ ‏لا‏ ‏نخشي؟‏ ‏أما‏ ‏استطاع‏ ‏هيرودس‏ ‏أخيرا‏ ‏وبإغراء‏ ‏هيروديا‏ ‏أن‏ ‏يقطع‏ ‏رأس‏ ‏يوحنا‏ ‏ويقدمه‏ ‏في‏ ‏طبق‏ ‏لها‏ ‏عندما‏ ‏رقصت‏ ‏ابنتها‏ ‏في‏ ‏حفل‏ ‏واستطاعت‏ ‏في‏ ‏مبدأ‏ ‏الأمر‏, ‏أن‏ ‏تأخذ‏ ‏قسما‏ ‏أنها‏ ‏مهما‏ ‏طلبت‏ ‏يعطي‏ ‏لها‏, ‏فانتهزت‏ ‏الفرصة‏ ‏وقد‏ ‏تلقنت‏ ‏من‏ ‏أمها‏, ‏وطلبت‏ ‏رأس‏ ‏يوحنا‏ ‏علي‏ ‏طبق‏, ‏يقول‏ ‏الكتاب‏ ‏المقدس‏ ‏اغتم‏ ‏هيرودس‏, ‏كيف‏ ‏يغتم‏ ‏هيرودس؟‏ ‏إن‏ ‏هيرودس‏ ‏مستاء‏ ‏من‏ ‏يوحنا‏ ‏لأن‏ ‏يوحنا‏ ‏قال‏ ‏له‏ ‏لا‏ ‏يحق‏ ‏لك‏ ‏أن‏ ‏تأخذ‏ ‏امرأة‏ ‏أخيك‏ ‏فيلبس‏ ‏وهو‏ ‏حي‏ ‏زوجة‏ ‏لك‏. ‏لماذا‏ ‏إذن‏ ‏يغتم‏ ‏هيرودس؟‏ ‏علي‏ ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏قدرته‏ ‏واستطاعته‏, ‏وما‏ ‏من‏ ‏إنسان‏ ‏يمكنه‏ ‏أن‏ ‏يدين‏ ‏هيرودس‏ ‏أو‏ ‏يحاكمه‏, ‏لماذا‏ ‏يغتم‏, ‏الاغتمام‏ ‏عملية‏ ‏نفسية‏ ‏داخلية‏.‏
هذا‏ ‏يدلكم‏ ‏علي‏ ‏أن‏ ‏يوحنا‏ ‏كان‏ ‏له‏ ‏في‏ ‏قلب‏ ‏هيرودس‏ ‏احترام‏ ‏ومهابة‏, ‏علي‏ ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يوحنا‏ ‏يعارض‏ ‏شهوات‏ ‏هيرودس‏, ‏مع‏ ‏هذا‏ ‏فهناك‏ ‏مهابة‏, ‏هذه‏ ‏المهابة‏ ‏من‏ ‏القديسين‏ ‏هي‏ ‏الضريبة‏ ‏المفروضة‏ ‏علي‏ ‏كل‏ ‏بشر‏, ‏نحو‏ ‏رجال‏ ‏الله‏ ‏القديسين‏ ‏حينما‏ ‏يكون‏ ‏هؤلاء‏ ‏القديسون‏ ‏أمناء‏, ‏أمناء‏ ‏لرسالتهم‏, ‏تقع‏ ‏هيبتهم‏ ‏علي‏ ‏كل‏ ‏أحد‏, ‏حتي‏ ‏لو‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏الأحد‏ ‏يعارضهم‏ ‏في‏ ‏رغباته‏ ‏وشهواته‏, ‏مع‏ ‏ذلك‏ ‏فللقديسين‏ ‏مهابتهم‏, ‏اغتم‏ ‏هيرودس‏ ‏ولكن‏ ‏من‏ ‏أجل‏ ‏القسم‏ ‏الذي‏ ‏أقسم‏ ‏به‏ ‏أمام‏ ‏الناس‏ ‏جميعا‏, ‏وفي‏ ‏حضرة‏ ‏الرؤساء‏ ‏ورؤساء‏ ‏الأقاليم‏ ‏أمر‏ ‏أن‏ ‏يعطي‏ ‏لهيروديا‏ ‏ما‏ ‏طلبت‏, ‏ذهب‏ ‏الجلاد‏ ‏ليقطع‏ ‏رأس‏ ‏يوحنا‏, ‏وقطعت‏ ‏رأس‏ ‏يوحنا‏ ‏والناس‏ ‏يقولون‏ ‏ماذا‏ ‏صنعت‏ ‏الأمانة‏ ‏بيوحنا ؟‏, ‏ها‏ ‏هو‏ ‏قد‏ ‏هزم‏ ‏يوحنا‏, ‏ها‏ ‏هو‏ ‏قد‏ ‏قتل‏ ‏يوحنا‏, ‏لماذا‏ ‏لم‏ ‏يتدخل‏ ‏الله‏ ‏لمنع‏ ‏هذه‏ ‏المأساة‏, ‏لماذا‏ ‏لم‏ ‏يمت‏ ‏هيرودس‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يتمم‏ ‏الأمر‏ ‏بقطع‏ ‏رأس‏ ‏يوحنا‏.‏
إن‏ ‏السطحيين‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏هم‏ ‏الذين‏ ‏يبحثون‏ ‏بهذا‏ ‏المنطق‏, ‏والذين‏ ‏تهمهم‏ ‏حياة‏ ‏الدنيا‏ ‏ويهمهم‏ ‏البقاء‏ ‏في‏ ‏هذه‏ ‏الحياة‏ ‏حتي‏ ‏علي‏ ‏حساب‏ ‏المبدأ‏. ‏لكن‏ ‏الأبرار‏ ‏والصديقين‏ ‏يقولون‏ ‏الموت‏ ‏ربح‏ ‏لي‏, ‏وحياتي‏ ‏ليست‏ ‏ثمينة‏ ‏عندي‏ ‏حتي‏ ‏أتمم‏ ‏بفرح‏ ‏السعي‏ ‏والخدمة‏ ‏التي‏ ‏أخذتها‏ ‏من‏ ‏الله‏, ‏رأسي‏ ‏علي‏ ‏كفي‏, ‏أنا‏ ‏أمين‏ ‏ولو‏ ‏قطعت‏ ‏هذه‏ ‏الرأس‏ ‏فلتقطع‏, ‏لكنني‏ ‏أنا‏ ‏سأظل‏ ‏أمينا‏, ‏ماذا‏ ‏يصنع‏ ‏بي‏ ‏الإنسان ؟‏,

‏قال‏ ‏سيدنا‏: ‏لاتخافوا‏ ‏من‏ ‏الذين‏ ‏يقتلون‏ ‏الجسد‏ ‏وليس‏ ‏لهم‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏يصنعوا‏ ‏شيئا‏, ‏بل‏ ‏أريكم‏ ‏ممن‏ ‏تخافون‏, ‏خافوا‏ ‏من‏ ‏الذي‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏يقتل‏ ‏له‏ ‏سلطان‏ ‏أن‏ ‏يلقي‏ ‏في‏ ‏جهنم‏ , ‏نعم‏ ‏أقول‏ ‏لكم‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏خافوا‏..‏خافوا‏ ‏من‏ ‏الله‏, ‏لكن‏ ‏لا‏ ‏تخافوا‏ ‏من‏ ‏البشر‏, ‏ولو‏ ‏كان‏ ‏الأبطال‏ ‏يخافون‏ ‏لما‏ ‏كان‏ ‏في‏ ‏الكنيسة‏ ‏شهداء‏.‏

This site was last updated 06/26/14