جريدة وطنى 8/3/2009م السنة 51 العدد 2362
البابا كيرلس..كان قائدا مبصرا
للمتنيح الأنبا غريغوريوس
يتكلم معلمنا لوقا البشير في الأصحاح السادس من إنجيله عن القيادة,هل يقدر أعمي أن يقود أعمي أما يسقط الأثنان في حفرة!!
هل يقدر أعمي أن يقود أعمي؟الحق أن البابا كيرلس السادس أبونا ومعلمنا الروحاني كان قائدا لكنه كان قائدا مبصرا,كان رجلا بصيرته مستنيرة,ولذلك شاء الله أن يجعله بحق في موضع القيادة فكان جديرا بالقيادة كبطريرك,علي الرغم مما يمكن أن يقال عن بساطة الرجل عندما يقارن بالمتعلمين,يحسب أنه لم يكن من الحاصلين علي الشهادات الكثيرة,وحكم عليه أيضا بأنه لم يكن متكلما,إنما البابا كيرلس كان قائدا بكل مفهوم كلمة القيادة في معانيها الروحية.وكان قائدا مبصرا,حقيقة كان مفتوح العينين وكان مفتوح الأذنين.مفتوح العينين بمعني أنه كان يري ما لايراه الإنسان بعينه المجردة,وكان مفتوح الأذنين لأنه كان يسمع الأصوات غير العادية التي يسمعها الإنسان بأذنيه الطبيعيتين.لأن هذا الرجل دخل إلي أعماق الحياة الروحية.
لم يكن سطحيا وعمقه هو الذي جعله أن يكون صامتا ,ودخوله إلي الروحانية هو الذي جعله أن يغطي نفسه بستار يراه الناس فيظنونه لايعلم.
الله تعالي علمه ما لم يعلم به آخرون.وكان يسمع أمورا لانسمعها نحن, هذا الكلام كل الذين عاصروه يعرفونه.يعرفون قوة هذه الكلمات أنه كان مفتوح العينين,وهذا تعبير من الكتاب المقدس,من التوراة,كان مفتوح العينين فكان يري ولذلك كان بحق قائدا .وشكرا لله فهذه نعمة كانت لكنيستنا أن يكون علي رأسها رجل بهذه الروحانية وبهذا القدر من العمق.بلغ صيته إلي أقطار بعيدة,ولا أنسي عندما جاء البطريرك المسكوني أثينا غوراس الذي رحل هو أيضا إلي العالم الآخر,حينما استقبلناه بالقاعة المرقسية تحدث عن سيرة البابا كيرلس وكيف وصلت خارج مصر,وعن طريقه أعطي صورة لروحانية الآباء الكبار فوصفه بأن له روحانية أنطونيوس وبولا ومقاريوس وغيره من الآباء الكبار الذين قرأ هذا البطريرك عنهم,لكنه رأي في البابا كيرلس الصورة الحية لهؤلاء الآباء الكبار.وأقول لكم الآن إن سيرة البابا كيرلس وصلت إلي بلاد كثيرة وإلي أماكن بعيدة,ربما عن طريق الأقباط الذين هاجروا حتي أننا أصبحنا نسمع عن البابا كيرلس من أجانب في ألمانيا وفي النمسا وفي إنجلترا وفي كندا وفي أمريكا وفي إستراليا,ليس الأقباط فقط إنما حتي الأجانب أيضا أصبحوا يعرفون الكثير عن مارمينا,عن طريق معرفتهم بالبابا كيرلس السادس.
هذا الرجل الصامت كان واعظا,أقدر من ألف واعظ علي ألف منبر,بسيرته وبقدوته, سيرة عملية لن تجد فارقا ولن تجد فاصلا بين ما يؤمن به وبين مايعمل,بل العمل الذي كان يعمله كان يترجم عن التعليم الذي يؤمن به,من دون أن ينطق ومن دون أن يتكلم وهذا أعمق ما في المسيحية.
لذلك كان البابا كيرلس راهبا بكل ما في هذه الكلمة من معني,والرهبنة قوة المسيحية,والقوة الدافعة لها من ورائها,وكان عمليا يقدم صورة الراهب الروحاني المفتوح العينين,الذي يري والذي يسمع والذي يتعامل مع العالم الآخر بسهولة ويسر وكأنه واحد منهم,كان في الأرض إنما كان عقله في السماء.كان بين الناس إنما كانت روحه تنفذ من جسده وتتحرك في بيوت المؤمنين ليصنع خيرا,شيء غريب كنا نقرأه عن السواح,ولكننا في حياة البابا كيرلس رأينا الرجل الذي تنفذ روحه من جسده وهو حي مع صلتها بجسده,تتشوف وتتحرك لتصنع خيرا في الأماكن البعيدة.وأناس من الأحياء كانوا يرونه في بعض بلاد أوربا وبعض بلاد أمريكا وهو هنا في مصر وكان حيا,كانت روحه تتحرك وكان يتشوف.
هذه درجة لايفهمها العاديون من الناس,هذه مرحلة من مراحل الحياة الروحانية التي لا تتوافق للذين يأخذون المسيحية والدين ذلك المأخذ السطحي الكلامي,لذلك كان صادقا حينما كان يري الوعظ أحيانا مجرد كلمات جوفاء من الفم وليست من القلب فكان يردد العبارةملأتم الهواء كلاماهذا تعبير رهباني,ملأتم الهواء كلاما,كان يقوله بروح النقد ولكن المعني وراء هذا عظيم.لم يكن هو ذلك الرجل الذي يملأ الهواء كلاما,كان قليل الكلام وإنما كانت كلماته القليلة علما ومعرفة وقيادة روحانية.
اليوم نذكر رحيله إلي العالم الآخر.والقديس بولس يقولليس لنا هنا مدينة باقية لكننا نطلب العتيدة ,اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله,انظروا إلي نهاية سيرتهم فتمثلوا بإيمانهموهذه هي النهاية التي نحتفل بها,أية نهاية مجيدة؟لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم,هذه هي النهاية المجيدة لهذا الرجل.والرسول يكلمنا اذكروا مرشديكم كان مرشدا,ولم يكن إرشاده عاديا,ليس كلاما إنما رؤية وواقع حي,إرشاد في الصميم لأنه إرشاد مبني علي رؤية عيانية,رؤية حقيقية,الدين بالنسبة له لم يكن صناعة ولا كلاما,كان دينه حياة بكل معني كلمة الحياة ,امتزج الدين بحياته فصار طبيعة واحدة معه,لذلك عيناه كانتا تشعان روحانية,جسمه كان ممغنطا روحانية وكان يمغنط الذين في مجاله.كان جسمه كهرباء روحية وكان يكهرب بهذه الروحانية الذين يقعون في مجاله.
إن هذا الرجل كما قلت سابقا وأقول الآن أيضا أن تلاميذه الثلاثة,واحد بعد الآخر الأنبا ميناأسقف دير مارمينا المتنيحوالرهب القمص روفائيلبدير مارميناوالراهب متياس بدير السيدة العذراء-البراموس,هؤلاء الثلاثة تلاميذ ترهبوا.وشكرا لله,الله يعينهم في طريق الكمال لأن رهبنتهم رهبنة روحية.من أين أخذوا هذا لو لم يجدوا الرجل الذي كانت حياته مطابقة للمفاهيم الروحية الرهبانية,هناك مطابقة لذلك ساروا علي نهجه الله يقويهم ويحفظ حياتهم الثلاثة جميعا لأنهم قمم,ربنا يقويهم.لكن هذا يدل علي أثر الرجل علي المحيطين به وعلي أنه كان صادقا في دينه,لأنه شبع من الدين ودخل الدين في أعماقه ودخلت الروحانية في داخله.
لا ننسي حياة الرجل في الدير وفي المغارة وفي الطاحونة وفي كل مكان,لا يعرف إلا أن يصلي,في كل تجربة,لايعرف إلا أن يصلي لأنه كان يؤمن أنه ليس له ما يعتمد عليه,لا ذكاء ولافهم ولا علم,لم يكن له ما يعتمد عليه إلا علي الله.
لذلك كان البابا كيرلس يترجم ويجسد ما قاله الكتاب المقدسأما أنا فصلاةكله أصبح صلاة,إذا تكلم فكلامه صلاة,إذا نظر فنظراته صلاة,إذا وقع في أزمة ففي الأزمة يصلي وكل الأزمات مع الزمن تحولت إلي الخير,ومع ذلك بقي الرجل في تواضعه لأنه حقيقة يعلم أن الذي كان يخلصه هو الله.وأن الذي كان يمجده هو الله,وأن الذي كان يحول له الشر إلي خير هو الله,لذلك كان حقيقة رجل دين,الدين فيه ومن يراه يري الدين لم يكن هناك انفصال بين رجوليته أو إنسانيته وبين الدين,الذي هو يمثله.هذا الانطباق بين الرجل وبين الدين يمثله البابا كيرلس خير تمثيل.من رآه فقد رأي الدين,ولا يجد فاصلا ولا فارقا, البعيدون كالقريبين بل القريبون أكثرهم الذين يلمسونه ويعرفون حقيقته الروحانية.
لذلك حينما يقول الرسول في هذا اليوماذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله,انظروا إلي نهاية سيرتهم,ليس إلي سيرتهم بل إلي النهاية.لأنه كما قال الرسول بولسهناك أناس كنت أذكرهم بفرح والآن صاروا أعداء صليب المسيحيمكن للإنسان أن يبدأ حسنا ولكن ممكن بعد ذلك أن يتعثر في الطريق.أما الذي يصمد إلي النهاية فهذا يخلص,هذا الرجل وصل إلي النهاية عبر إلي الميناء وعبر عبورا جديدا.لذلك حينما يقول الكتاب اليوم انظروا إلي نهاية سيرتهم.أمامنا الرجل الذي انتهت حياته بمجد وكرامة,انتهت حياته والذين يقدرونه اليوم بعد حياته أكثر من الذين كانوا يقدرونه في حياته.وهذا دليل جديد ودليل عظيم,علي أن روحانية الرجل لم تكن روحانية عادية لأنها في كل يوم تكتشف أكثر,وفي كل يوم يظهر مجده وفي كل يوم يلمس الناس دلائل جديدة بعد غياب الرجل إلي العالم الآخر,وإن كنا نؤمن أنه ليس في العالم الآخر فقط,أنا أؤمن تماما أن البابا كيرلس حي في عالمنا وأنه يتحرك وأنه ينفذ وأنه يعمل إلي اليوم.لست أقول هذا الكلام مبالغة,أؤمن تماما أن الرجل حي وحي لا بالمعني العام للكلمة,إنما البابا كيرلس حي حقيقة وأنه يتكلم وأنه يتصرف وأنه يتمشي بين الشعب وبين الناس وأنه يحل مشاكل وأنه يدفع عن الكنيسة شرورا بصلواته ودعواته, وكثيرون يرونه الآن في أحلامهم وفي رؤياهم,يرونه يصلي ويرونه يدافع ويرونه يعمل من أجل الكنيسة وسلامها .اسمعوا القديس بطرس الرسول يقول في الرسالة الأولي والأصحاح الرابع:إنما نهاية كل شيء قد اقتربت فتعقلوا واصحوا للصلوات .وقبل كل شيء لتكن محبتكم بعضكم لبعض شديدة لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا.
نهاية كل شيء قد اقتربت,نعم,فتعقلوا,تصرفوا بعقل اصحوا لأنفسكم,تنبهوا أصحوا للصلوات.
يقينا أيها الإخوة والأبناء نحن في الأيام الأخيرة, ظروف كثيرة أنتم تقرأون عنها وتلمسونها بعيونكم,اضطرابات في كل بقعة في الأرض,غليان في كل مكان, حروب في كل مكان كلها تنذر بحرب عالمية كبيرة يمكن أن تنفجر في أي وقت,تعقلوا واصحوا للصلوات لا ينشغل الإنسان بمظاهر الدنيا,بل يرتفع فوقها إلي السمائيات إلي الروحانيات ,العقل رباط,فتعقلوا ,اربطوا أنفسكم بهذا الرباط,رباط المباديء,رباط القيم الروحية.
أيها الإخوة والأبناء نحن نحضر كل عام لنحتفل بذكري البابا كيرلس ونسمع هذه القصص الجميلة,وهذه القصص المؤثرة التي تدل علي حياة الرجل لكن كل واحد فينا مطالب بأن يكون هو البابا كيرلس,أن يقتدي بالبابا كيرلس لأن هذا هو الهدف من اجتماعنا ومن احتفالنا به,ليس تكريما للرجل لأن الرجل أكرمه الرب,إنما من سيرته نتعلم,نتعلم كيف أننا في كل مواقفنا نصلي لتنصرنا,ولتسندنا نعمة الله,ظهورنا لابد أن تكون مسنودة إلي قوة أعلي من قوتنا,هناك حروب الشيطان وحروب الجسد وحروب من الناس ومضايقات.في حياة كل إنسان ضيقات مختلفة ,فلا تسير منفردا ولاتتكل علي نفسك وعلي فهمك لاتعتمد.
إنما كما كان البابا كيرلس كان لايعتمد علي فهمه,إنما في كل أمر كان يلجأ بالصلاة إلي الله وهذا هو الذي صقله وهذبه وروحنه فتحول إلي روحاني وكأنه ليس له جسد,عاش حياة الصلاة والصوم ونحن في فترة الصوم الكبير العظيم المقدس الذي فيه يهنيء الأقباط بعضهم بعضا كما درجوا كلما أتي الصوم الكبير,لأنهم يعلمون أن الروحانيين يتحدثون عن النعيم الروحاني الذي يحصلون عليه ويعيشون فيه إذا صاموا صوما حقيقا,صوما كاملا بالروح والجسد وبالعقل وبالذهن وبالنفس وبالحواس.وبكل أعضاء الإنسان الباطنية والظاهرة .
هذه فرصتنا أننا اليوم تعلمنا من البابا كيرلس,لم يعلمكم أحد,لأن كل واحد من الذين تكلموا,تكلم بشيء غريب أو شيء جديد,إنما تحدثوا بالغني الذي في حياة هذا الرجل .من هذا الغني نغترف,وهو غني الله الذي كان فيه والعامل فيه والذي لايزال يعمل فيه .
مرة أخري أقول نحن جئنا لكي نتعلم من الرجل,ولكي يكون كل واحد منا البابا كيرلس في حياته,مقتديا بروحانيته,يحفظكم الرب لكل عام ويعيننا جميعا بصلواته وأدعيته,ويعيد عليكم الأيام بسلام ولإلهنا الإكرام والمجد إلي الأبد آمين.
Encyclopedia - أنسكلوبيديا