Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم المؤرخ / عزت اندراوس

  ترجمة الكتاب المقدس للعربية من اللغتين العبرية واليوناني للغة

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up

ترجمة الكتاب المقدس للعربية من اللغتين العبرية واليونانية

وقام بها الدكتور "عالي سميث"، والدكتور "كرنيليوس فان دايك"، والمعلّم "بطرس البستاني"، والشيخ "ناصيف اليازجي"، والشيخ "يوسف الأسير" وغيرهم

في أوائل القرن التاسع عشر، بدأت حركة النّهضة الأدبية، وانتشرت حركة الإرساليات التبشيرية في بلدان الشّرق الأوسط، بمجيء المرسلين الإنجيليين منذ عام 1819، مما حتم وجود ترجمة جديدة للكتاب المقدس، خصوصا أن الترجمات السابقة كانت غير مكتملة وفيها الكثير من الضعف. وقد هيّأ الله لهذه الترجمة رجالا عظاما، ولا سيما الدكتور "عالي سميث"، والدكتور "كرنيليوس فان دايك"، والمعلّم "بطرس البستاني"، والشيخ "ناصيف اليازجي"، والشيخ "يوسف الأسير" وغيرهم..
وفي العام 1847 قررت الإرسالية الأميركيّة القيام بترجمة الكتاب المقدس من اللغتين العبرية واليونانية إلى العربية. ورأس الدكتور "سميث" اللجنة لهذه المهمة، وكرس حياته ومواهبه لهذا العمل المجيد..
وشرع الدكتور "عالي سميث" عام 1848 في الترجمة يعاونه قطبين من أقطاب اللغة العربية، هما: المعلم "بطرس البستاني" والشيخ "ناصيف اليازجي". كان الدكتور "سميث" عالماً ضليعاً في العبرية واليونانية، وكان يتقن اللّغة العربيّة كأحد أبنائها؛ لفظاً وكتابة، فصحى وعامية. وكان المعلّم "بطرس البستاني" حجة في اللغة العربية، إلى جانب معرفته عدداً من اللّغات الأخرى لا سيما اللغات السامية، فكان يستطيع أن يترجم العهد القديم من اللغة العبرية إلى اللغة العربية، أي من لغة سامية إلى لغة سامية أخرى. فيما كان الشيخ "ناصيف اليازجي" نحوياً قديراً ومرجعاً أعلى، فكان مصحح المطبعة لضبط اللغة. وفي عام 1854 سلم الدكتور "سميث" للمسؤولين عن الطبع، أسفار موسى الخمسة مع بعض أجزاء العهد الجديد.
وقبل موت الدكتور "سميث" المبكّر بالسرطان في العام 1857، كان قد أتم ترجمة أسفار موسى الخمسة والعهد الجديد كلّه، بالإضافة إلى أجزاء من أسفار الأنبياء: إشعياء، هوشع، يوئيل، عاموس، عوبديا، يونان، ميخا، وناحوم.
وكان "بطرس البستاني" يعمل على مسودة، ثم يراجع "سميث" الترجمة عن الأصل، حيث كان يرجع إلى الأصل العبريّ والآرامي للعهد القديم، والأصل اليوناني للعهد الجديد. وكان أيضاً يراجع النسخ والترجمات الأخرى للمقارنة. وأخيراً تقدم النّسخة إلى الشيخ "ناصيف اليازجي" لمراجعتها وضبط اللغة والنحو والأسلوب. وبعد ذلك تطبع النّسخ وترسل إلى مشاهير العلماء من مرسلين ووطنيين في البلاد العربية وفي ألمانيا. هذه الاستشارات لا تقتصر على العلماء فقط بل تتعداهم إلى أشخاص عاديين وبسطاء يطلب منهم أن يشيروا إلى أية كلمة أو عبارة يجدونها غامضة أو يلتبس معناها عليهم. كانت هذه الملاحظات تلقى كلّ عناية عند "سميث" وزملائه، وفي ضوئها تعد النسخ الأخيرة للطبع.
كان موت "سميث" المبكر خسارة فادحة، لكنّ الله الّذي سمح بموته كان قد أعد "كرنيليوس فان دايك" بديلاً عنه. كان "فان دايك" قد تلقّى علوم اللغة العربية على يد المعلم "بطرس البستاني" والشيخ "ناصيف اليازجي"، والشيخ "يوسف الأسير". وأتقن "فان دايك" اللغة العربية شعراً ونثراً حتى أصبح من أعلامها. لذلك تعين بدلاً من الدكتور "سميث" لمتابعة الترجمة عام 1857. فإنصرف بكلّ قواه يجتهد في تطبيق كلّ كلمة عن أصلها سائراً على نهج سلفه. وبدأ أولاً في مراجعة جميع الأسفار الّتي ترجمها "سميث" والمعلم "البستاني"، وانتهى منها عام 1860. وفي عام 1864 انتهى من ترجمة باقي العهد القديم. وطبع الكتاب المقدّس كاملاً في 10 مارس عام 1865. وتم طباعته 55 الف نسخة حتي عام 1866 في أمريكا.
وقضى "كرنيليوس فان دايك" بقية أيام حياته في مراجعة الترجمة، ووضع ملاحظاته عليها، وظل ينقح ويصحح فيها حتى يوم وفاته في 13 يناير عام 1895. وبذا يكون الوقت الّذي قضاه "فان دايك" في ترجمة الكتاب المقدس، منذ تعيينه عضواً في اللجنة عام 1844 إلى يوم وفاته عام 1895، أكثر من خمسين عاماً. لذلك عرفت الترجمة باِسم "ترجمة فان دايك".
وقد كان لهذه الترجمة آثارا روحية عظيمة في حياة الأفراد والكنائس في الشرق الأوسط. فحيثما وصل الكتاب المقدس أثبت أنه كلمة الله الّتي لا ترجِع إليه فارغة، وقد كان بركة لإنعاش الكنائس التقليدية القديمة، وفي تأسيس كنائس جديدة، وقيادة كثيرين من كل الأجناس والأديان للمسيح، وما تزال حتي الآن.
وكان “كرنيليوس فان دايك” قد ولد في 13 أغسطس 1818، في ولاية “نيويورك”، في الولايات المتحدة الأميركية، من أبوين هولانديين الأصل. تلقى دراسته الابتدائية والثانوية في مدرسة بلدته، وتعلم اللاتينية واليونانية إضافة إلى الهولندية والإنكليزية. كما دأب على حفظ أسماء كلّ النباتات البرية الّتي كانت تنمو في نواحي بلدته، وتعلم بنفسه تصنيفها، وكان “فان دايك”، على الرغم من فقر عائلته، يستعير الكتب من رفاقه أو يستأجرها. إلا أن طبيباً كريم الأخلاق في القرية، فتح له أبواب مكتبته، فإنكب على دراسة ما فيها بينما كان يخدم في صيدلية أبيه، حيث أتقن فن الصيدلة علماً وعملاً، ودرس الطب لينال درجة الدكتوراه من كلية “جيفرسون” الطبية في فيلادلفيا عام 1839..
وبعد تخرجه، توجه “كرنيليوس فان دايك” برسالة إلى المجلس الأمريكي للبعثات التبشيرية في “بوسطن”، يخبره فيها عن عزمه على الانضمام إلى الإرساليات الدينية في الخارج. وبعد قبوله مرسلا، سافر “فان دايك” بالباخرة، برفقة جماعة من المرسلين ونسائهم، من “بوسطن” إلى بيروت. وبعد سفر دام حوالى الشهرين، استقبلهم عند وصولهم كل من الدكتور “وليم طمسون” و “إي بيدل”. وبسبب مبدأ الحجر الّذي كان مطبقاً آنذاك، حجروا وأمتعتهم أربعة عشر يوماً ثم أُطلق سراحهم. فنزل “فان دايك” في غرفة المكتبة التابعة لمطبعة الأميركان، ريثما يقر الرأي على المكان الّذي سيتم إرساله إليه..
جال الدكتور “كرنيليوس فان دايك” برفقة الدكتور “طومسن” مستطلعاً المنطقة الشّمالية في سوريا، بحثاً عن أفضل المراكز الصالحة للتبشير. ومن ثمّ دعي إلى اللحاق بالمرسلين إلى القدس (أورشليم)، حيث تعلم العربية على يد المعلّم “ميخائيل عرمان”، وأمضى ثمانية أشهر في معالجة مرضى الحمى الّتي أصابت المنطقة.
عاد “فان دايك” إلى بيروت عام 1841، حيث تعرف بالمعلم "بطرس البستاني"، فسكنا معاً وارتبطا برباط المودة والصداقة. وتقرر فتح مدرستين، على أن يدرس فيها الدكتور “فان دايك” لأولاد أعيان الدروز. وفي 1842 تم إنشاء مركز للتبشير في عيتات وضع تحت إشرافه، فقضى الشتاء الأوّل مترجِماً كتاب التعليم المسيحي. وفي العام نفسه، اقترن “فان دايك” بالآنسة “جوليا ابوت”، ابنة القنصل الإنكليزي العام في بيروت. وكان “فان دايك” يعلم الشبان في المدرسة ويعظ في الكنيسة حتى عام 1845، حين أمر وزير الخارجية التّركي بوجوب مغادرة جميع الأجانب الجبل، فأقفلت المدرسة وعاد المرسلون إلى بيروت. وبعد قضاء شهرين فيها، سمح لهم بالعودة إلى الجبل، حيث احتُفل برسامة الدّكتور “كرنيليوس فان دايك” قسيساً وذلك في 14 يناير عام 1846. وفي ربيع 1846 قرّر المرسلون جعل اللغة العربية لغة التدريس في مدرسة الجبل، فعين كل من الدكتور “فان دايك” والمعلّم "بطرس البستاني"، وبقي الدكتور “فان دايك” متولّياً رئاسة مدرسة الجبل حتى سنة 1851، إذ نقل بعدها إلى صيدا برفقة الدكتور “طومسن”. حيث بقي حتى أواسط سنة 1853، مكرساً نفسه لأعمال التبشير والوعظ بكلمة الله، والتجوال مع الدكتور “طومسن” لتبشير المرضى ومعالجتهم. بعدها سافر إلى أميركا، حيث تعرف إلى أحدث الإكتشافات الطبّيّة حول الجراثيم. وعندما عاد إلى مركز عمله في صيدا، في أواخر سنة 1854، أحضر معه مجهراً صغيراً، فكان بذلك أول طبيب في الشرق الأوسط يستعمل المجهر للأغراض الطبية..
استمر الدّكتور “فان دايك” يعمل في صيدا حتّى وفاة الدكتور “عالي سميث” عام 1857، عندما انتدبته الإرسالية الإنجيلية لإتمام ترجمة الكتاب المقدس الّتي كان قد ابتدأها الدكتور “سميث” عام 1848. ويذكر القس “هنري جسب” حول اختيار الإرسالية الدكتور “فان دايك” لإتمام ترجمة الكتاب المقدس، ما يلي: “إن الله، بعنايته الحكيمة، قد أعد هذا الرجل الغيور مدة سبع عشرة سنة لهذا العمل العظيم، لأنه كان قد حفظ مجلدات مِن الكتب العربية من شعر وعروض وصرف، وكان قد ألّف مجلدات في العلوم والفنون. ولم يكن له نظير بين الأوروبيين في معرفة اللغة العامية، كما أن معرفته اليونانيّة والعبرانيّة والسريانية والكلدانية كانت واسعة”..
وهكذا أخذ الدّكتور “فان دايك” يتفانى في عمل الترجمة، حتى أنجز طبع العهد الجديد في 29 مارس عام 1860، بعد عمل متواصل دام ثلاث سنوات. وعن عمله هذا يقول القس “هنري جِسب”: “إنّي قد شاهدت “فان دايك” مراراً كثيرة جالساً في غرفة الترجمة، محاطاً بقواميس ومجلدات في لغات مختلفة، ممعناً النّظر ومدققاً في البحث عن معنى كلام الله في اللغات الأصلية وحقيقة الاصطلاحات العربيّة، وهو ضاغط رأسه بيديه بسبب ما ألم به من الصداع”.
وفي أغسطس عام 1864، أنجز ترجمة العهد القديم إلى العربيّة. وهكذا تمت ترجمة الكتاب المقدس كاملاً بعد عمل متواصل دام ست عشرة سنة، وقد ابتدأت مع الدكتور “عالي سميث” وانتهت مع الدّكتور “كرنيليوس فان دايك”.
إلى جانب عمل الترجمة، تولّى الدكتور “فان دايك” رئاسة مطبعة الأميركان، وأشرف على تنقيح الكتاب المقدّس الّذي تمّ طبعه في 29 مارس 1865. وفي هذه السّنة أيضاً، بعثت به الإرساليّة إلى الولايات المتحدة كي يشرف على تقنيات تساعد على طباعة الكتاب المقدس. فأتاحت له هذه الزيارة فرصة دراسة أمراض العين، بالإضافة إلى عمله في دار الكتاب المقدس في نيويورك.
وفي سنة 1867، عاد إلى مركز عمله في بيروت، وباشر مع زميله الدّكتور “ورثبات” تأسيس القسم الطبي في الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية)، فوضعا منهجاً للدروس يلزِم الطالب دراسة الطب أربع سنوات كي يحصل على شهادة طبيب. وأنشأ الدّكتور “كرنيليوس فان دايك” مستوصفاً لأمراض العين، ومرصَداً فلكياً جهزه من ماله الخاص. كما ألّف للطلاّب في الفروع العلمية الّتي كان يدرس فيها، كتباً وطبعها على نفقته الخاصة. مع هذا، لم يتخل، خلال عمله في الكلية، عن إدارة مطبعة الأميركان، وتنقيح ما كان يطبع فيها من الكتب، حتى عام 1879.
قدم الدكتور “كرنيليوس فان دايك” استقالته من التّعليم في الكليّة السورية الإنجيلية سنة 1882، ومن عضويّة مجلس مدرائها في سنة 1883، وزاول رسالته الطبية في مستشفى القديس “جاورجيوس” حتى سنة 1893. لكنه تابع تأليف سلسلة من الكتب العلمية للمبتدئين، تحت عنوان “النّقش في الحجر”، تتناول مختلف الفنون العلمية بطريقة مبسَطة، وقد صدر منها ما بين سنة 1885 وسنة 1889 ثمانية أجزاء في الكيمياء والطبيعيات (الفيزياء) والجغرافيا والجيولوجيا وعِلم الفلك والنبات والمنطق..
ظل فانديك يمارس عمله دون انقطاع عن عمل الخير، حتى أصيب بحمى التيفوئيد التي لازمته أياماً معدودة، فشعر بدنو أجله وامتنع عن الطعام، فزاره صديقا له بتناول الطعام لتقويته على المرض، فقال له: “شبعت من الحياة، فلا حاجة لي بعد إلى غذاء، فإذا كانت بقيت علي خدمة لسورية فتممها أنت عني”. كما أوصاه وأوصى أهل بيته، بأن يدفن في صمت تام بأرض الشام، دون أن يؤبنه أحد ولا يرثيه شاعر ولا يخطب على قبره خطيب، وأن تتلى على جثمانه الصلوات في الكنيسة باللغة العربية.
توفّي الدّكتور “فان دايك” في 13 يناير عام 1895 عن سبعة وسبعين عاما، فدفن حسب وصيته في صمت مطبق بالمقبرة الأميريكية ببيروت، بعد أن تليت الصلاة على جثمانة باللغة العربية في الكنيسة الإنجيلية في بيروت. بعد أن أمضى في الشرق الأوسط نحو 55 سنة. وما إن ذاع خبر نعيه حتّى تقاطر الناس من جميع الطوائف إلى منزله بالمئات. واقتصرت مراسيم الجنازة على تلاوة الإصحاح الخامس عشر من رسالة كورنثوس الأولى والمزمور التّسعين، وذلك تنفيذاً لوصيّته الّتي منع فيها تأبينه أو إلقاء الخطب، ولذلك سكت الجميع، وكان لهذا السكوت تأثير عظيم في قلوب الجمهور. وقال أحد أصحابه: “إنّ وصيته هي موعظة أفصح مِن كل المواعظ الّتي نطق بها الفقيد في حياته”..