الجزء التالى من كتاب السيرة النبوية - تأليف: عبد الملك بن هشام المعافري - الجزء الثانى - 20 / 116
الوليد بن المغيرة و كيده للرسول ، وموقفه من القرآن
اجتماعه بنفر من قريش ليبيتوا ضد النبي صلى الله عليه و سلم
و اتفاق قريش أن يصفوا الرسول صلى الله عليه و سلم بالساحر ، و ما أنزل الله فيهم
ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ، وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا ؛ قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس ، فقلْ وأقمْ لنا رأيا نقول به ؛ قال : بل أنتم فقولوا أسمعْ ؛ قالوا : نقول كاهن ؛ قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه ؛ قالوا : فنقول : مجنون ؛ قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ، ولا تخالجه ، ولا وسوسته ؛ قالوا : فنقول : شاعر ؛ قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر ؛ قالوا : فنقول : ساحر ؛ قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم ؛ قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة - قال ابن هشام : ويقال لغَدَق - وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عُرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته .
فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم ، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا لهم أمره .
فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة و في ذلك من قوله : ( ذرني ومن خلقت وحيدا ، وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ، ومهَّدت له تمهيدا . ثم يطمع أن أزيد . كلا إنه كان لآياتنا عنيدا ) : أي خصيما .
قال ابن هشام : عنيد : معاند مخالف . قال رؤبة بن العجاج :ونحن ضرابون رأس العُنَّدِ *
وهذا البيت في أرجوزة له .
( سأرهقه صعودا ، إنه فكر وقدر ، فقتل كيف قدر . ثم قتل كيف قدر . ثم نظر ، ثم عبس وبسر ) .
قال ابن هشام : بسر : كره وجهه . قال العجاج :مضبر اللحيين بسرا منهسا *
يصف كراهية وجهه . وهذا البيت في أرجوزة له .
( ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر ، إن هذا إلا قول البشر ) .
رد القرآن على صحب الوليد
قال ابن إسحاق : وأنزل الله تعالى : في النفر الذين كانوا معه يصنفون القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيما جاء به من الله تعالى : ( كما أنزلنا على المقتسمين . الذين جعلوا القرآن عضين . فوربك لنسئلنهم أجمعين . عما كانوا يعملون ) .
قال ابن هشام : واحدة العضين : عضة ، يقول : عضوه : فرقوه . قال رؤبة بن العجاج :وليس دين الله بالمُعَضَّى *
وهذا البيت في أرجوزة له . (2/ 108)
تفرق النفر في قريش يشوهون رسالة الرسول صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : فجعل أولئك النفر يقولون ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن لقوا من الناس ، وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها .
شعر أبي طالب في معاداة خصومه
فلما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه ، قال قصيدته التى تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها ، وتودد فيها أشراف قومه ، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنه غير مسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه ، فقال :
ولما رأيت القوم لا ود فيهمُ * وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى * وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوما علينا أظنّة * يعضون غيظا خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة * وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي * وأمسكت من أثوابه بالوصائل
قياما معا مستقبلين رتاجه * لدي حيث يقضي حلفه كل نافل
وحيث يُنيخ الأشعرون ركابهم * بمفضَى السيول من إساف ونائل
موسمَّة الأعضاد أو قصراتها * مخُيَّسة بين السَّديس وبازل
ترى الودع فيها والرخام وزينة * بأعناقها معقودة كالعثاكل
أعوذ برب الناس من كل طاعن * علينا بسوء أو مُلحّ بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة * ومن ملحق في الدين ما لم نحاول
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه * وراق ليرقى في حراء ونازل
وبالبيت ، حق البيت ، من بطن مكة * وبالله إن الله ليس بغافل
وبالحجر المسودّ إذ يمسحونه * إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة * على قدميه حافيا غير ناعل
وأشواط بين المروتين إلى الصفا * وما فيهما من صورة وتماثل
ومن حج بيت الله من كل راكب * ومن كل ذي نذر ومن كل راجل
وبالمشعر الأقصى إذا عمدوا له * إلالٌ إلى مُفضَى الشراج القوابل
وتوقافهم فوق الجبال عشية * يقيمون بالأيدي صدور الرواحل
وليلة جمع والمنازل من منى * وهل فوقها من حرمة ومنازل
وجمع إذا ما المقربات أجزنه * سراعا كما يخرجن من وقع وابل
وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها * يؤمون قذفا رأسها بالجنادل
وكندة إذ هم بالحصاب عشية * تجيز بهم حُجَّاج بكر بن وائل
حليفان شدا عقد ما احتلفا له * وردَّا عليه عاطفات الوسائل
وحطمهمُ سمُر الصفاح وسرحه * وشبرقة وَخْدَ النعام الجوافل
فهل بعد هذا من معاذ لعائذ * وهل من معيذ يتقى الله عاذل
يُطاع بنا أمر العدَّى وودّوا لو اننا * تُسد بنا أبواب ترك وكابل
كذبتم وبيت الله نترك مكة * ونظعن إلا أمركم في بلابل
كذبتم وبيت الله نُبزَى محمدا * ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله * و نذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم في الحديد إليكمُ * نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
وحتى ترى ذا الضغن يركب * رَدْعه من الطعن فعل الأنكب المتحامل
وإنا لعمر الله إنْ جدَّ ما أرى * لَتلتبسنْ أسيافنا بالأماثل
بِكفَّيْ فتى مثل الشهاب سميدع * أخي ثقة حامي الحقيقة باسل
شهورا وأياما وحولا مجَرَّما * علينا وتأتي حِجة بعد قابل
وما ترك قوم ، لا أبا لك ، سيدا * يحوط الذمار غير ذرب مواكل
وأبيض يستقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهُلاّف من آل هاشم * فهم عنده في رحمة وفواضل
لعمري لقد أجرى أسيد وبكره * إلى بغضنا وجزّآنا لآكل
وعثمان لم يربع علينا وقنفذ * ولكن أطاعا أمر تلك القبائل
أطاعا أُبيّا وابن عبد يغوثهم * ولم يرقبا فينا مقالة قائل
كما قد لقينا من سُبيع ونوفل * وكلٌّ تولى معرضا لم يجُامل
فإن يُلْقيا أو يمُكن الله منهما * نكلْ لهما صاعا بصاع المُكايل
وذاك أبو عمرو أبي غير بُغضنا * ليُظعننا في أهل شاء وجامل
يناجي بنا في كل ممسى ومصبح * فناج أبا عمرو بنا ثم خاتل
ويُؤْلى لنا بالله ما إن يغشُّنا * بلى قد نراه جهرة غير حائل
أضاق عليه بغضنا كل تلعة * من الأرض بين أخشب فمجادل
وسائلْ أبا الوليد ماذا حبوتنا * بسعيك فينا معرضا كالمخاتل
وكنت امرأ ممن يُعاش برأيه * ورحمته فينا ولست بجاهل
فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح * حسود كذوب مبغض ذي دغاول
ومر أبو سفيان عني معرضا * كما مر قَيْلٌ من عظام المقاول
يفر إلى نجد وبرد مياهه * ويزعم أني لست عنكم بغافل
ويخبرنا فعل المناصح أنه * شفيق ويخفي عارمات الدواخل
أمطعمُ لم أخذلك في يوم نجدة * ولا معظم عند الأمور الجلائل
ولا يوم خصم إذا أتوك ألدّة * أُولي جدل من الخصوم المساجل
أمطعم إن القوم ساموك خطة * وإني متى أُوكلْ فلست بوائل
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * عقوبة شر عاجلا غير آجل
بميزان قسط لا يخُسّ شعيرة * له شاهد من نفسه غير عائل
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا * بني خلف قيضا بنا والغياطل
ونحن الصميم من ذؤابة هاشم * وآل قصي في الخطوب الأوائل
وسهم ومخزوم تمالوا وألَّبوا * علينا العدا من كل طمل وخامل
فعبد مناف أنتم خير قومكم * فلا تشركوا في أمركم كل واغل
لعمري لقد وهنتمُ وعجزتمُ * وجئتم بأمر مخطىء للمفاصل
وكنتم حديثا حطب قدر وأنتم الْ آن * حطاب أَقدُر ومراجل
ليهنىء بني عبد مناف عقوقنا * وخذلاننا وتركنا في المعاقل
فإن نك قوما نتَّئر ما صنعتمُ * وتحتلبوها لقحة غير باهل
وسائط كانت في لؤي بن غالب * نفاهم إلينا كل صقر حُلاحل
ورهط نفيل شر من وطىء الحصى * وألأم حاف من معد وناعل
فأبلغ قصيا أن سيُنشر أمرنا * وبشر قصيا بعدنا بالتخاذل
ولو طرقت ليلا قصيا عظيمة * إذا ما لجأنا دونهم في المداخل
ولو صدقوا ضربا خلال بيوتهم * لكنا أٌسى عند النساء المطافل
فكل صديق وابن أخت نعده * لعمري وجدنا غِبَّه غير طائل
سوى أن رهطا من كلاب بن مرة * براء إلينا من معقَّة خاذل
وهنَّا لهم حتى تبدد جمعهم * ويحسر عنا كل باغ وجاهل
وكان لنا حوض السقاية فيهم * ونحن الكُدى من غالب والكواهل
شباب من المطيِّبين وهاشم * كبيض السيوف بين أيدي الصياقل
فما أدركوا ذحلا ولا سفكوا دما * ولا حالفوا إلا شرار القبائل
بضرب ترى الفتيان فيه كأنهم * ضواري أسود فوق لحم خرادل
بني أمة محبوبة هندكية * بني جمح عُبيد قيس بن عاقل
ولكننا نسل كرام لسادة * بهم نُعي الأقوام عند البواطل
ونعم ابن أخت القوم غير مكذَّب * زهير حساما مفردا من حمائل
أشمُّ من الشم البهاليل ينتمي * إلى حسب في حومة المجد فاضل
لعمري لقد كُلِّفت وجدا بأحمد * وإخوته دأب المحب المواصل
فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها * وزينا لمن والاه رب المشاكل
فمن مثله في الناس أي مُؤمَّل * إذا قاسه الحكام عند التفاضل
حليم رشيد عادل غير طائش * يوالي إلاها ليس عنه بغافل
فوالله لولا أن أجيء بسنة * تجُر على أشياخنا في المحافل
لكنا اتبعناه على كل حالة * من الدهر جِدّا غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذَّب * لدينا ولا يُعنى بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد في أرومة * تُقصِّر عنه سورة المتطاول
حدبت بنفسي دونه وحميته * ودافعت عنه بالذرا والكلاكل
فأيده ربُّ العباد بنصره * وأظهر دينا حقه غير باطل
رجال كرام غير مِيل نماهم * إلى الخير آباء كرام المحاصل
فإن تك كعب من لؤي صُقيبة * فلا بد يوما مرة من تزايل
قال ابن هشام : هذا ما صح لي من هذه القصيدة ، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها .
الرسول عليه الصلاة والسلام يستقي لأهل المدينة حين أقحطوا ، فنـزل المطر ، وود لو أن أبا طالب حي ، ليرى ذلك
قال ابن هشام : وحدثني من أثق به ، قال : أقحط أهل المدينة ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشكوا ذلك إليه ، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فاستسقى ، فما لبث أن جاء من المطر ما أتاه أهل الضواحي يشكون منه الغرق ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم حوالينا ولا علينا ، فانجاب السحاب عن المدبنة فصار حوليها كالإكليل ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أردك أبو طالب هذا اليوم لسره ، فقال له بعض أصحابه : كأنك يا رسول الله أردت قوله :
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
قال : أجل .
قال ابن هشام : وقوله ( وشبرقة ) عن غير ابن إسحاق .
ذكر الأسماء التى وردت في قصيدة أبي طالب
قال ابن إسحاق : والغياطل : من بني سهم بن عمرو بن هصيص ، وأبو سفيان بن حرب بن أمية . ومطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف . وزهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم ، و أمه عاتكة بنت عبدالمطلب .
قال ابن إسحاق : وأسيد ، وبكره : عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي . وعثمان بن عبيد الله ، أخو طلحة بن عبيد الله التيمي . وقنفذ بن عمير بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة . وأبو الوليد عتبة بن ربيعة . وأُبيّ الأخنس بن شريق الثقفي ، حليف بني زهرة بن كلاب .
قال ابن هشام : وإنما سمي الأخنس ، لأنه خنس بالقوم يوم بدر ، وإنما اسمه أُبي ، وهو من بني علاج ، وهو علاج بن أبي سلمة بن عوف بن عقبة . والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب . وسبيع بن خالد ، أخو بلحارث بن فهر . ونوفل بن خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصي ، وهو ابن العدوية . وكان من شياطين قريش ، وهو الذي قرن بين أبي بكر الصديق وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما في حبل حين أسلما ، فبذلك كانا يُسميان القرينين ؛ قتله علي بن أبي طالب عليه السلام يوم بدر . وأبو عمرو قُرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف .
( وقوم علينا أظنَّة ) : بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة ، فهؤلاء الذين عدد أبو طالب في شعره من العرب .
انتشار ذكر الرسول في القبائل خارج مكة ، و لاسيما في الأوس و الخزرج
فلما انتشر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرب ، وبلغ البلدان ، ذكر بالمدينة ، ولم يكن حي من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر ، وقبل أن يذكر من هذا الحي من الأوس والخزرج ، وذلك لما كانوا يسمعون من أحبار اليهود ، وكانوا لهم حلفاء ، ومعهم في بلادهم . فلما وقع ذكره بالمدينة ، وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف . قال أبو قيس بن الأسلت . أخو بني واقف .
نسب أبي قيس بن الأسلت
قال ابن هشام : نسب ابن إسحاق أبا قيس هذا هاهنا إلى بني واقف ، ونسبه في حديث الفيل إلى خطمة ، لأن العرب قد تنسب الرجل إلى أخي جده الذي هو أشهر منه .
قال ابن هشام : حدثني أبو عبيدة : أن الحكم بن عمرو الغفاري من ولد نُعيلة أخي غفار . وهو غفار بن مليل ، ونعيلة بن مليل بن ضمرة بن بكر ابن عبد مناة ، وقد قالوا عتبة بن غزوان السلمي ، وهو من ولد مازن بن منصور وسُليم بن منصور .
قال ابن هشام : فأبو قيس بن الأسلت : من بني وائل ؛ ووائل ، وواقف ، وخطمة إخوة من الأوس .
وقرض ابن الأسلت شعرا في الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق : فقال أبو قيس بن الأسلت - وكان يحب قريشا ، وكان لهم صهرا ، كانت عنده أرنب بنت أسد بن عبدالعزى بن قصي ، وكان يقيم عندهم السنين بامرأته - قصيدة يعظم فيها الحرمة ، وينهى قريشا فيها عن الحرب ، ويأمرهم بالكف بعضهم عن بعض ، ويذكر فضلهم وأحلامهم ، ويأمرهم بالكف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويذكرهم بلاء الله عندهم ، ودَفْعَه عنهم الفيل وكيده عنهم ، فقال :
يا راكبا إما عرضت فبلغن * مغلغلة عني لؤي بن غالب
رسول امرئ قد راعه ذات بينكم * على النأي محزون بذلك ناصب
وقد كان عندي للهموم معرَّس * فلم أقض منها حاجتي ومآربي
نُبيِّتكم شرجين كل قبيلة * لها أزمل من بين مُذْك وحاطب
أعيذكم بالله من شر صنعكم * وشر تباغيكم ودس العقارب
وإظهار أخلاق ونجوى سقيمة * كوخز الأشافي وقعها حق صائب
فذكِّرهم بالله أول وهلة * وإحلال أحرام الظباء الشوازب
وقل لهم والله يحكم حكمه * ذروا الحرب تذهب عنكم في المراحب
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة * هي الغُول للأقصَين أو للأقارب
تُقطِّع أرحاما وتهلك أمة * وتَبرْي السديف من سنام وغارب
وتستبدلوا بالأتحمية بعدها * شليلا وأصداء ثياب المحارب
وبالمسك والكافور غُبرْا سوابغا * كأن قتيرَيْها عيون الجنادب
فإياكمُ والحرب لا تعلقنَّكم * و حوضا وخِيم الماء مر المشارب
تزين للأقوام ثم يرونها * بعاقبة إذ بيَّنت ، أم صاحب
تحرق لا تُشوي ضعيفا وتنتحي * ذوي العز منكم بالحتوف الصوائب
ألم تعلموا ما كان في حرب داحس * فتعتبروا أو كان في حرب حاطب
وكم قد أصابت من شريف مسوَّد * طويل العماد ضيفُه غير خائب
عظيم رماد النار يحُمد أمره * وذي شيمة محض كريم المضارب
وماء هُريق في الضلال كأنما * أذاعت به ريح الصبا والجنائب
يخبركم عنها امرؤ حق عالم * بأيامها والعلم علم التجارب
فبيعوا الحراب مِلْمُحارب واذكروا * حسابكم والله خير محاسب
وليّ امرىء فاختار دينا فلا يكن * عليكم رقيبا غير رب الثواقب
أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتم * لنا غاية قد يهتدى بالذوائب
وأنتم لهذا الناس نور وعصمة * تُؤَمُّون ، والأحلام غير عوازب
وأنتم ، إذا ما حصل الناس ، جوهر * لكم سرة البطحاء شم الأرانب
تصونون أجسادا كراما عتيقة * مهذبة الأنساب غير أشائب
ترى طالب الحاجات نحو بيوتكم * عصائب هلكى تهتدي بعصائب
لقد علم الأقوام أن سراتكم * على كل حال خير أهل الجباجب
وأفضله رأيا وأعلاه سنة وأَقولُه للحق وسط المواكب *
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا * بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء ومصدق * غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
كتيبته بالسهل تمُسي ورَجْلُه * على القاذفات في رءوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم * جنود المليك بين ساف وحاصب
فولوا سراعا هاربين ولم يؤب * إلى أهله مِلْحُبْش غير عصائب
فإن تهلكوا نهلكْ وتهلكْ مواسم * يُعاش بها ، قول امرئ غير كاذب
قال ابن هشام : أنشدني بيته : ( وماء هريق ) ، وبيته : ( فبيعوا الحراب ) ، وقوله : ( ولي امرىء فاختار ) ، وقوله :على القاذفات في رءوس المناقب *
أبو زيد الأنصاري وغيره .
حرب داحس والغبراء
قال ابن هشام : وأما قوله : ألم تعلموا ما كان في حرب داحس *
فحدثني أبو عبيدة النحوي : أن داحسا فرس كان لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن الحارث بن مازن بن قُطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان ؛ أجراه مع فرس لحذيفة بن بدر بن عمرو بن زيد بن جؤية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان ، يقال لها : الغبراء .
فدس حذيفة قوما وأمرهم أن يضربوا وجه داحس إن رأوه قد جاء سابقا ، فجاء داحس سابقا فضربوا وجهه ، وجاءت الغبراء . فلما جاء فارس داحس أخبر قيسا الخبر ، فوثب أخوه مالك بن زهير فلطم وجه الغبراء ، فقام حمَل بن بدر فلطم مالكا . ثم إن أبا الجُنَيْدب العبسي لقي عوف بن حذيفة فقتله ، ثم لقي رجل من بني فزارة مالكا فقتله ، فقال حمل بن بدر أخو حذيفة بن بدر :
قتلنا بعوف مالكا وهو ثأرنا * فإن تطلبوا منا سوى الحق تندموا
وهذا البيت في أبيات له . وقال الربيع بن زياد العبسي :
أفبعد مقتل مالك بن زهير * ترجو النساء عواقب الأطهار
وهذا البيت في قصيدة له .
فوقعت الحرب بين عبس وفزارة ، فقتل حذيفة بن بدر وأخوه حمل بن بدر ، فقال قيس بن زهير بن جذيمة يرثي حذيفة ، وجزع عليه :
كم فارس يُدعى وليس بفارس * وعلى الهباءة فارس ذو مَصْدَقِ
فابكوا حذيفة لن تُرَثُّوا مثله * حتى تبيد قبائل لم تخلق
وهذان البيتان في أبيات له . وقال قيس بن زهير :
على أن الفتى حمل بن بدر بغى والظلم مرتعه وخيم *
وهذا البيت في أبيات له . وقال الحارث بن زهير أخو قيس بن زهير:
تركت على الهباءة غير فخر * حذيفة عنده قصد العوالي
وهذا البيت في أبيات له .
قال ابن هشام : ويقال : أرسل قيس داحسا والغبراء ، وأرسل حذيفة الخطار والحنفاء ، والأول أصح الحديثين . وهو حديث طويل منعني من استقصائه قطعه حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حرب حاطب
قال ابن هشام : وأما قوله : ( حرب حاطب ) . فيعني حاطب بن الحارث ابن قيس بن هيشة بن الحارث بن أمية بن معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس ، كان قتل يهوديا جارا للخزرج ، فخرج إليه يزيد بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج - وهو الذي يقال له : ابن فُسحم ، وفسحم أمه ، وهي امرأة من القين بن جسر - ليلا في نفر من بني الحارث بن الخزرج فقتلوه ، فوقعت الحرب بين الأوس والخزرج فاقتتلوا قتالا شديدا ، فكان الظفر للخزرج على الأوس ، وقتل يومئذ سويد بن صامت بن خالد بن عطية بن حوط بن حبيب بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس ، قتله المجذَّر بن ذياد البلوي ، واسمه عبدالله ، حليف بني عوف بن الخزرج .
فلما كان يوم أحد خرج المجذر بن ذياد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج معه الحارث بن سويد بن صامت ، فوجد الحارث بن سويد غِرَّة من المجذر فقتله بأبيه . وسأذكر حديثه في موضعه إن شاء الله تعالى . ثم كانت بينهم حروب منعني من ذكرها واستقصاء هذا الحديث ما ذكرت في حديث حرب داحس .
شعر حكيم بن أمية في نهي قومه عن عداوة الرسول صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : وقال حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمي ، حليف بني أمية وقد أسلم ، يورّع قومه عما أجمعوا عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان فيهم شريفا مطاعا :
هل قائل قولا هو الحق قاعد * عليه وهل غضبان للرشد سامعُ
وهل سيد ترجو العشيرةُ نفعه * لأقصى الموالي والأقارب جامع
تبرأت إلا وجه من يملك الصبا * وأهجركم ما دام مُدْل ونازع
وأُسلم وجهي للإله ومنطقي * ولو راعني من الصديق روائع
ذكر ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه
سفهاء قريش يأذونه ، و رميه صلى الله عليه و سلم بالسحر و الجنون
قال ابن إسحاق : ثم إن قريش اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه منهم ، فأغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم : سفهاءهم ، فكذبوه وآذوه ، ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفي به ، مباد لهم بما يكرهون من عيب دينهم ، واعتزال أوثانهم ، وفراقه إياهم كفرهم .
أشد ما أوذي به الرسول صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق : فحدثني يحيى بن عروة بن الزبير ، عن أبيه عروة بن الزبير ، عن عبدالله بن عمرو بن العاص ، قال : قلت له : ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يُظهرون من عداوته ؟ قال : حضرتهم ، وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر ، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط ، سفه أحلامنا ، وشتم آباءنا ، وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا ، وسب آلهتنا ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ، أو كما قالوا : فبينا هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل يمشي حتى استلم الركن ، ثم مر بهم طائفا بالبيت ، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول . قال : فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : ثم مضى ، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها ، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم مر الثالثة فغمزوه بمثلها ، فوقف ، ثم قال : أتسمعون يا معشر قريش ، أما والذي نفسي بيده ، لقد جئتكم بالذبح . قال : فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع ، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفَؤُه بأحسن ما يجد من القول ، حتى إنه ليقول : انصرف يا أبا القاسم ، فوالله ما كنت جهولا .
قال : فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم ؛ فقال بعضهم لبعض : ذكرتم ما بلغ منكم ، وما بلغكم عنه ، حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه . فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، وأحاطوا به ، يقولون : أنت الذي تقول كذا وكذا ، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم ؛ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، أنا الذي أقول ذلك . قال : فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه .
قال : فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه ، وهو يبكي ويقول : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ ثم انصرفوا عنه ، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط
بعض ما نال أبا بكر في سبيل الرسول صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : وحدثني بعض آل أم كلثوم بنت أبي بكر ، أنها قالت : لقد رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه ، مما جبذوه بلحيته وكان كثير الشعر .
أشد ما أوذي به رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن هشام : حدثني بعض أهل العلم : أشد ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش أنه خرج يوما فلم يلقه أحد من الناس إلا كذبه وآذاه ، لا حر ولا عبد ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منـزله ، فتدثر من شدة ما أصابه ، فأنزل الله تعالى عليه : ( يا أيها المدثر ، قم فأنذر ) .