لولا حادث كفر الزيات..لما تولي إسماعيل الحكم
هل كان شيطان ذلك المواطن الإنجليزي الذي قدم لبلاده وللبشرية واحدا من بين أعظم الإنجازات بابتكاره القطار الذي مايزال العالم يعتمد عليه في الانتقالات أو النقل حتي يومنا هذا.
وبعض المعاصرين وصفواجورج ستيفنسنمخترع القطار بالشيطان تعبيرا عن انبهارهم وإعجابهم بهذا الاختراع العجيب الذي رواد أحلام المبدعين في الأدب والسينما وجعله البعض بطلا في العديد من الأفلام العالمية,وغني له البعض مثل الفنان محمد عبد الوهاب:
ياوابور قوللي رايح علي فين
وخاف منه طه حسين في روايته شجرة البؤس.
كان نقل البضائع يتم بالوسائل البدائية بواسطة الحيوانات(الجمل والحمار) أو بالنقل النهري فكان الحيوان هو الوسيلة الرئيسية لمواصلات الإنسان ولكن جهود ومحاولات العلم بدأت في تلك الفترة بمحاولة استخدام اختراع وليم مردوخ لأول قاطرة بخارية في إنجلترا عام 1781م,إلا أن الاختراع فشل لأن القضبان كانت مصنوعة من الزهر فتكسرت,وتوالت جهود المهندسين لتحسين هذه القاطرة حتي تمكن جورج ستيفنس من تسيير قاطرة ذات عجلات ملساء علي قضبان ملساء,واتسع نطاق السكك الحديدية,ومن أوربا أخذت السكك الحديدية تغزو بلدان العالم وتعد مصر المحطة الثالثة عالميا بعد إنجلترا والهند ,وبدأ يستعمل القطار وسيلة لنقل الركاب كما تعد مصر الأولي في بلدان أفريقيا.
وفي ظل رغبة إنجلترا في احتلال مصر وقتئذ,كلفت شركة سكة حديد ليفربول المهندس جالوي بك بأن يفاتح محمد علي الذي يعمل معه في إنشاء خط بين القاهرةعين شمسوالسويس ليكون حلقة الاتصال بين أوربا والهند المستعمرة من قبل إنجلترا وقتئذ وليسهل علي إنجلترا توصيل البريد ونقل البضائع بسهولة وبسرعة بين الهند وبريطانيا عبر مصر..غير أن فرنسا أوهمت الوالي بأن إنجلترا تسعي من وراء ذلك إلي أهداف سياسية من شأنها أن تفصل مصر عن العالم الإسلامي,وكان غرض فرنسا أن تستعيض عن السكة الحديد بمشروع حفر قناة السويس..إلا أن محمد علي رفض الفكرتين,معللا ذلك بنقص الأموال التي تمكنه من تنفيذ أي من المشروعين,ولم يكن متأكدا من أن العائد المادي للخط الحديدي سيكون مجزيا..ولكنه قرر أن يستفيد من القضبان التي وصلت بالفعل إلي مصر من إنجلترا حيث قام سنة 1834م بإنشاء خط حديدي من محاجر المقطم إلي النيل لتنقل الأحجار اللازمة لبناء القناطر الخيرية,ثم قام بإنشاء خط حديدي في ضواحي الإسكندرية بين المكس ومحاجر الدخيلة,وفي سنة 1845م تم إنشاء خط المحمودية لنقل البضائع ولم تتوقف محاولات جالوي بك عن السعي في إنشاء خط حديدي يربط القاهرة بالسويس وآخر يربط العاصمة بالإسكندرية ولكنها باءت بالفشل مرة أخري,وبوفاة محمد علي وتولي عباس الأول الحكم في فبراير 1850م ,تجدد أمل الإنجليز وعاودوا الإلحاح عن طريقوالم القنصل الإنجليزي بمصر ومستشار عباس,وبالفعل نجح في إقناعه وتم الاتفاق مع روبرت ستيفنسنوهو ابن مخترع القاطرة لينفذ مشروع إدخال السكك الحديدية إلي مصر,علي أن يكون الخط الأول بين الإسكندرية والقاهرة,ووقع العقد في 12 يوليو سنة 1851م ودفع حاكم مصر مبلغ 56 ألف جنيه علي خمسة أقساط أولها مبلغ 1600 جنيه وتعهد بدفع 8000 جنيه كتعويض إذا تسبب في تعطيل المشروع وأن يقدم كافة العمال والأطباء والأدوية والخيام المطلوبة.
بدأ العمل في هذا الخط عام 1852م وانتهت أولي مراحله عند مدينة كفر الزيات عام 1853م,ويعود ذلك إلي أن العمل كان يسير ببطء ورتابة لأن مستربروسالذي كان قنصلا عاما لبريطانيا في مصر لم يكن متحمسا لخط القاهرة الإسكندرية فقد كان يري أن عائد الإنجليز من هذا الخط محدود وحاول السعي لإنشاء خط القاهرة السويس ,ونجح بروس في إقناع عباس بإنشاء خط السويس ولكن توقفت مسيرة خط السكة الحديد بعدما أغتيل عباس باشا في 14 يوليو 1854م وخلفه محمد سعيد باشا واليا علي مصر والتزم بتنفيذ الاتفاق.
وأخيرا شهدت مصر تسيير أول قاطرة علي الخط الحديدي من القاهرة حتي مدينة كفر الزيات,وكانت تستكمل الرحلة بالجمال حتي تصل الإسكندرية,وبعد ذلك استكمل الخط الحديدي حتي وصل إلي الإسكندرية عام 1856م وأنشأ في نفس العام محطة السكة الحديد بجوار باب الحديد عند الخليج الزعفراني المسمي بترعة الإسماعيليةرمسيس حالياوأطلق عليها محطة باب الحديد,وصممها المهندس البريطاني أدون بانس علي طراز عربي إسلامي وتعد نموذجا للتناسق المعماري الحضاري,واحترقت سنة 1882م وأعيد بناؤها سنة 1893م,واستكمل خط السكة الحديد ووصل إلي السويس في 1858م ولكن لم يحقق عائدا ماديا وتراجع دورة بعد افتتاح قناة السويس سنة 1869 فأزيل وتم رفعه في سنة 1878م,ثم أعيد إنشاؤه في عهد الملك فؤاد 1934م.
يذكر أن السلطان العثماني عبد العزيز حسين زار مصر سنة 1863 وانتقل من الإسكندرية إلي القاهرة بالقطار وكان مندهشا فلم يكن رأي من قبل القطار الذي أنعش طريقي الإسكندرية والسويس.
وكانت النهضة الحقيقية للسكك الحديدية في مصر في عهد الخديوي إسماعيل حيث وصل طول ما أنشيء قبل ولاية إسماعيل إلي 245 ميلا,وبحسب إحصاء بعثة كيفالإنجليزية بلغ طول السكك الحديدية التي أنشأها إسماعيل 1200 ميل,وقدرت البعثة نفقات الإنشاءات بمبلغ 13.200.000 بواقع تكلفة الميل 11 ألف جنيه ,وفي عهده وصلت الخطوط الحديدية إلي الوجه القبلي سنة 1867م, ومد خط سكك الحديد إلي حلوان عام 1872م,وبعد ذلك وصلت خطوط القطارات إلي داخل المدنالتراملتنتشر في أرجاء القاهرة والإسكندرية وتولت إدارته شركة بلجيكية وشركة فرنسية وأصبحت هذه القطارات وسيلة المواصلات العامة الأولي في عاصمة مصر خلال الربع الأول من القرن العشرين,واتفق الخديوي إسماعيل مع مهندسين مصريين علي أن يصل خط السكة الحديد للسودان,وشرع في مد الخط علي طول النيل من وادي حلفا إليحنكوأنفق علي ذلك نحو 400 ألف جنيه وتم مد الخط نحو 57 كيلو مترا فقط من وادي حلفا ثم توقف العمل سنة 1878م بسبب إرتباك الحكومة المالي,ولكنه إمتد فيما بعد إلي السلوم بمرسي مطروح وأيضا إلي سيناء.
في البداية بدأ استخدام القطار البخاري الذي يعتمد علي المياه وكانت توجد مشكلة وهي عدم وفرة المياه لهذا كان يعتمد علي مياه النهر,فكان القطار يزود بالمياه العكرة مما يؤدي إلي أعطال متكررة بسبب رواسب الطمي من تلك المياه واتجه المهندسون بعد ذلك إلي مصادر أخري مثل المياه الجوفية واتضح أن هذه المياه تحتوي علي نسب عالية من الأملاح فكانت أكثر ضررا من المياة النيلية العكرة,وعلي هذا لجأ المهندسون إلي القيام بمشروع كبير لإنشاء شبكة من المحطات تقوم بتنقية المياه العكرة,وكان مشروع ضخم ومع إحلال القطارات بالديزل تم تفكيك هذا المشروع بالتدريج.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولي فكرت إنجلترا في إقامةخط سكك حديدية بين مصر وفلسطين لنقل الذخائر والعتاد والجنود من مصر إلي فلسطين ,وبالفعل بدأ العمل في بناء الخط من القنطرة شرق علي الضفة الشرقية لقناة السويس وحتي غزة,وإكتمل البناء عام 1918,ووافقت شركة قناة السويس علي إقامة كوبري علوي فوق القناة حتي يمكن ربط خط سكك حديد القاهرة السويس بخط سكك حديد فلسطين مباشرة لتوفير الوقت بشرط تفكيك الكوبري بعد انتهاء الحرب.
كما جاءت الحرب العالمية الثانية وأثرت علي خطوط السكة الحديد بجميع الدول وأصبحت مصر في حالة سيئة نتيجة لضغط العمل واعتماد البريطانيين عليها في نقل العتاد والزخائر والجنود,بالإضافة لوقف أعمال التجديدات خلال سنوات الحرب,وعاني الجمهور من آثار هذه الحالة مثل تأخير مواعيد القطارات والحوادث المتكررة.
وجاءت ثورة 23 يوليو 1952م فتراكمت المشاكل وقدرت المبالغ اللازمة للتجديد حوالي 60 مليون جنيه وأدرك جمال عبد الناصر أهمية السكك الحديدية لنهضة مصر فأصدر قرارات خاصة بتنظيم الهيئة ككل من الناحية المالية والإدارية وشكلت اللجان الفنية لتنفيذ خطة خماسية سنة 1960م للقيام بالتجديدات العاجلة ليستطيع المرفق القيام بالأعباء المنوطة به,وبلغ إجمالي التجديدات آنذاك 131.5 مليون جنيه وكان أهمها تغيير جميع القاطرات البخارية وتشغيل قاطرات ديزل,أما عن أول أرباح لهذا المشروع فقد بلغت إيرادتها 28 مليون جنيه ووصلت المصروفات 19.1 مليون جنيه وذلك1963م.
القطار رغم حوادثه أصبح ضيفا مخيفا يفترس الطبيعة ..هذا علي حد قولنيكولاس لينارالألماني.إلا أن قضبانه التي رسخت في أرض مصر وجاءت لنا بتاريخ حافل وأحداث مازالت مدونة في تاريخنا,وعالقة في ذهن المصريين.
حادث غير مجري التاريخ
إنه حادث كفر الزيات..ففي عام 1858م أقام الوالي محمد سعيد حفلا بالإسكندرية دعا إليه أمراء الأسرة العلوية وكان بين المدعوين الأمير أحمد رفعت ولي العهد,وبينما كان الأمير أحمد عائدا مع الأمير عبد الحليم في قطار خاص مع حاشيتهما,سقطت العربة التي تقلهما في النيل عند كفر الزيات ونجا الأمير عبد الحليم حيث تمكن من القفز من القطار..أما الأمير أحمد رفعت فكان ضخم الجسم ورفض أن يتحرك من مقعده منتظرا أن يحمله العبيد لكن في مثل هذه المواقف ينجو كل شخص بنفسه فغرق ولي العهد وبذلك فتح الطريق أمام الأمير إسماعيل ليرتقي عرش مصر في أعقاب وفاة سعيد,ونظرا للطابع المأسوي للحادث فعنصر المفاجأة واستفادة إسماعيل المباشرة من الحادث فإن عددا من الباحثين والصحف تصوروا أن غرق الأمير أحمد كان مدبرا من قبل إسماعيل,إلا أن الدلائل تنفي هذا التآم