تفسير (متى 3: 1) : وفي تلك الأيام أقبل يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية
ثانيا : التفسير الحرفى والتاريخى والجغرافى - إعداد المؤرخ / عزت اندراوس
1) “ وفي تلك الأيام ” (مر 1: 4 - 15) (لو 2: 2و 3) (يو 1: 28) (يش 15: 61 - 62) يقصد الأيام التى كان يسكن يسوع فى الناصرة وهنا لا يدل على مدة معينة ولكنه فيه إشارة إلى المدة بعد الحوادث التى ذكرت فى الإصحاح السابق أى نحو 25 سنة لم يحدث فيها حوادث هامة حيث كان فيها يعيش تمط الحياة العادية كأى إنسان يهودى آخر إلا أن جادثة واحدة فقط عندما كان يسوع فى سن 12 سنة ذكرت فى (لو 2: 42- 52) وأراد من تلك ألأسام وقت كان طيباريوس فيه قيصر إمبراطورا فى روما وبيلاطس واليا خامسا على اليهودية وعدم ذكر حوادث هذه المدة يعلمنا كيف تعيش الأسرة بدون أى مشاكل او خلافات
2) “ أقبل ” أى جاء أى بدأ يبشر وكان قد فى بداية سن الثلاثين من عمره وهو سن بداية الوقت السن حسب الشريعة لممارسة الكاهن وظيفته (عد 4: 3 و47)
3) "يوحنا " معنى إسمه : "يهوه مُنعِم" "عطية يهوه" (مت 3: 1)( مت 4: 21) (أع 12: 12) هو مُهيئ طريق المسيح، وابن زكريا الشيخ وزوجته أليصابات (لو 1: 5 - 25 و57 - 85). وكلاهما من نسل هارون ومن عشيرة كهنوتية. ويستدل من (لوقا 1: 26) أن ولادته كانت قبل ولادة المسيح بستة أشهر. وقد عينت الكنيسة يوم ميلاده في 24 حزيران (يونيو)، أي عندما يأخذ النهار في النقصان، وعيد ميلاد المسيح في 25 كانون الأول، أي عندما يأخذ النهار في الزيادة استنادًا على قوله: "ينبغي أن ذلك يزيد "واني أنا أنقص" (يو 3: 30). وكان أبواه يسكنان اليهودية، ولربما يوطة، يطا الحاضرة بقرب حبرون، مدينة الكهنة. وكانا محرومين من بركة النسل. وكانت صلاتهما الحارة إلى الله أن ينعم عليهما بولد. وفي ذات يوم كان زكريا يقوم بخدمة البخور في الهيكل ظهر له الملاك جبرائيل وسكن روعه وأعلمه لأن الله قد استجاب صلاته وصلاة زوجته، وبدت الاستجابة مستحيلة في أعينهما واعين البشر بالنسبة إلى سنهما. وأعطاه الملاك الاسم الذي يجب أن يسمى الصبي به متى ولد، وأعلن له أن ابنه سيكون سبب فرح وابتهاج، ليس لوالديه فحسب، بل أيضًا لكثيرين غيرهما، وأنه سيكون عظيمًا، ليس في أعين الناس فقط، بل أمام الله. وأن مصدر عظمته الشخصية هو امتلاؤه من الروح القدس، ومصدر عظمته الوظيفية في أنه سيكون مهيئًا طريق الرب، وزاد الملاك ما هو أعظم من ذلك أي أن يوحنا يكون المبشر بظهور المسيح الموعود. فيتقدم أمامه متممًا النبوة التي كان يتوق إليها كل يهودي بأن إيليا يأتي قدام المسيح، ويهيء للرب شعبًا مستعدًا (مل 4: 5 و6 ومت 11: 14 و17: 1 - 13). أما زكريا فلم يصدق هذه البشارة لأن الموانع الطبيعية كانت أبعد من أن يتصورها العقل. ولم يكن معذورًا لأنه كان يعلم جيدًا ببشائر نظيرها، لاسيما بشارة الملاك للشيَخين إبراهيم وسارة. ولهذا ضرب بالصمم والخرس إلى أن تمت البشارة.
ولد يوحنا سنة 5 ق.م. وتقول التقاليد أنه ولد في قرية عين كارم المتصلة بأورشليم من الجنوب (لو 1: 39). ولسنا نعلم إلا القليل عن حداثته. ونراه في رجولته ناسكًا زاهدًا، ساعيًا لإخضاع نفسه والسيطرة عليها بالصوم والتذلل، حاذيًا حذو إيليا النبي في ارتداء عباءة من وبر الإبل، شادًا على حقويه منطقة من جلد، ومغتذيًا بطعام المستجدي من جراد وعسل بري، مبكتًا الناس على خطاياهم، وداعيًا إياهم للتوبة، لأن المسيح قادم. ولا شك أن والده الشيخ قد روى له رسالة الملاك التي تلقاها عن مولده وقوله عنه "يتقدم أمامه بروح إيليا وقوته" (لو 1: 17). والتقارب بين ما نادى به إيليا وما نادى به يوحنا والتشابه في مظهرهما الخارجي ولبسهما ومعيشتهما واضح للعيان من مقارنة قصة حياتهما.ولم يظن يوحنا عن نفسه انه شيء وقال انه: "صوت صارخ في البرية" (يو 1: 13).
وكانت المدة التي عمل فيها يوحنا قصيرة ولكن نجاحه بين الشعب كان باهرًا. وحوالي نهاية سنة 27 أو مطلع سنة 28 ب.م. أمر هيرودس انتيباس رئيس الربع بزجه في السجن لأنه وبخه على فجوره (لو 3: 19 و20).وكانت هيروديا زوجة هيرودس قد خانت عهد زوجها الاول وحبكت حبائل دسيسة ضده مع أخيه هيرودس. وقد سمعت بذلك زوجة هيرودس الفتاة العربية فهربت إلى بيت أبيها الحارث وأخلت مكانها في القصر لهيروديا الخائنة التي حنقت على يوحنا وكبتت غيظها وَتَحيَّنت الفرصة للإيقاع به لأنه قال لهيرودس بأنه لا يحق له أن يتزوجها. وفي السجن اضطرب يوحنا ونفذ صبره بسبب بطء المسيح في عمله. ولربما أحس بأن المسيح نسيه وإلا لماذا لا يسعفه في الظلم الذي لحق به كما يسعف الآخرين. وطغت على أعصابه عوامل الوحشة والوحدة والقيود لأنه كان يترقب حدوث أحداث جسام وأراد أن يرى قبل موته تحقيق أحلام حياته. وبعث تلميذين ليستعلم من يسوع أن كان هو المسيح وأشار يسوع إلى معجزاته وتبشيره (لو 7: 18 - 23).
وكانت قلعة مخيروس المطلة على مياه البحر الميت والتي زج يوحنا في إحدى خباياها كافية لكسر قلب الرجل الجريء الذي نادى بقوله الحق في وجه الفريسيين والكهنة وأعطى للزنى اسمه الحقيقي، ولو أن الزاني كان ملكًا عظيمًا. وبعد ثلاثة أشهر يحل عيد هيردوس وإذا بهيروديا ترسل ابنتها الجميلة سالومة لتؤانس ضيوف الملك وسط المجون والخلاعة ورنين الكؤوس. واذ بهيرودس الثمل ينتشي برقصها المثير فيقسم أمام ضيوفه بأن يعطيها ما تطلب فتطلب، حسب رغبة أمها، رأس يوحنا على طبق. وبعد لحظات يهوي الجلاد بسيفه على عنق الرجل العظيم. ولم يترك جثمانه دون كرامة، لأن تلاميذه جاؤوا حالًا ورفعوه ودفنوه.وحسب يوحنا أن المسيح شهد فيه أعظم شهادة إذ قال: "لم يقم بين المولدين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان" (مت 11: 11).
4) “ المعمدان ” يطلق عليه أسماء أخرى مثل " (السابق - الصابغ - نبي العهدين) أما إسم المعمدان يطلق عليه لأنه كان يعمد التائبين بعد أن يعترفوا بخطاياهم في نهر الأردن. (لو 3: 2 - 14). وكانت المعمودية اليهودية تقوم:
(1) بالغسولات والتطهيرات الشعبية (لا 11: 40 و13: 55 - 58 و14: 8 و15: 27 وار 33: 8 2: 22 وحز 36: 25 إلخ. وزك 13: 1 قابل مر 1: 44 ولو 2: 22 ويو 1: 25). فأضفى يوحنا عليهما معنى أدبيًا (مت 3: 2 و6) وعمق معناها الروحي.
(2) بإدخال المهتدين إلى الدين اليهودي. فأصر يوحنا على ضرورة تعميد الجميع بصرف النظر عن جنسهم وطبقتهم (مت 3: 9). إذ على الجميع أن يتوبوا ليهربوا من الغضب الآتي (مت 3: 7 ولو 3: 7). لان معمودية المسيا الآتي ستحمل معها دينونة (مت 3: 12 ولو 3: 17، وقد طلب يسوع أن يعمده يوحنا، لا لأنه كان مُحتاجًا إلى التوبة، بل ليقدم بذلك الدليل على اندماجه في الجنس البشري وصيرورته أخًا للجميع.
5) “ يكرز” تعنى بشر بتعاليم .. وعظ .. بدأ يوحنا المعمدان كرازته وتبشيره كرسول في سنة 26 ب. م. وعلى الأرجح في السنة السبتية مما مكن الشعب الذي كان منقطعًا عن العمل من الذهاب إليه إلى غور الأردن. وكان يوحنا هو آخر انبياء العهد القديم وكانت مضت 400 سنة لم يظهر فيها نبى غيره وقد جمع صفات أنبياء كثيريين مثل موسى وأشعياء يبشر بالوهد والموعد وكان الأقرب للسيد المسيح وقد شهد في كرازته أن يسوع هو المسيح (يو 1: 15)، كما شهد يسوع أن يوحنا أعظم المولودين من النساء وهذه المقارنة ليست مبنية على صفات خاصة بل على درجة وظيفته إذ أتى بروح إيليا (لو 1: 17) فهو سابق للمسيح يهئ الطريق قدامه وكان يجهو الناس لقبول يسوع كمخلص لهم من خطاياهم وأنه حمل الله (يو 1: 29 و36).
5) “ في برية اليهودية ” بَريَّة اليهودية (مت 3: 1). . وهي الكورة المحيطة بالأردن ( لوقا 3:3) الأراضي المقفرة بين جبال اليهودية والبحر الميت. ومعدل عرضها 15 ميلًا. وصخورها كليسة، وترابها قليل. وبسبب قحطها خلت من المدن وندرت فيها القرى وهى المنطقة التى تربى فيها يوحنا (بو 1: 40) والمشار إليها فى (لو 3: 3) المنطقة المحيطة بنهر الأردن والذى يمتد من بحيرة طبرية شمالا حتى البحر الميت جنوبها .. إلا أن ظهورة فى إسرائيل كان بالقرب من "قصر اليهود" "كسر اليهود " وهى المنطقة التى عبر منها ييشوع نهر الأردن من الأردن إلى أرض الميعاد .
أولا : التفسير الروحى/ الرمزى والمجازى الذى أسسه العلامة القبطى أوريجانوس - والتأملى الذى أشتهرت به الكنيسة القبطية
فيما يلى كتاب الدر الفريد في تفسير العهد الجديد ـ تفسير انجيل متى – مار ديونيسيوس ابن الصليبي
يوحنا المعمدان ان قوله في تلك ” الأيام ” ليس الأيام التي رجع فيها يسوع من مصر الى الناصرة ، فقد كان حينذاك ابن خمسة سنوات ، ولما جاء الى يوحنا ليعتمد كان في الثلاثين من عمره كقول لوقا . لأنه لما نزل الى مصر كان عمره سنتين ومكث فيها ثلاثة سنوات ثم رجع الى الناصرة ليسكن فيها مدة خمسة وعشرين سنة حيث كمّل الناموس وابطله وطبعنا في ديننا . بمعنى ان يوحنا لم يبتدأ يعمّد في الوقت الذي رجع السيد المسيح من مصر ، لانه وقت عماد ربنا كان يوحنا في الثلاثين من عمره . وقال آخرون ان القصد من تلك ” الأيام ” هو التي جاء فيها المسيح ليعتمد . فقد جرت عادة الكتاب ان تسمّى الأيام بالحدث الذي جرى فيها وتحسب لا حسب الزمان الطويل كقوله بأيام ارفيل وعوزيا ، بل حسب اليوم ذاته كقول النبي اليوم كلّه محارباً يضايقني ( مز 56 : 1 ) بدل قوله مدة الزمان . وقال غيرهم أنها تلك الأيام التي لم يكن لليهود فيها ملك ولا نبي . لقد أراد متى ان يقول انه في بعض الازمنة جاء يوحنا قائلاً كذا حينئذ جاء يسوع أو حينئذ اخذ الى البرية . وكلها ليست بالترتيب فقد جرت عادة الكتاب ان يقول هذا . ولما جلس على الجبل وعلم عن خراب أورشليم وتمم هذا الخبر وثم بدأ يخبر عن منتهى العالم فمدة طويلة بينهما . وهكذا الحال هنا فقد حصر زمان كل حياته بتلك التي جاء وسكن في الناصرة والثلاثين سنة كلها . في بعض الازمنة جاء يوحنا . فملك اوغسطوس ستة وخمسين سنة وفي السنة الواحدة والاربعين من ملكه ولد المسيح . وخلفه في الملك ابنه طيباريوس . وفي الخامسة عشرة من ملك هذا جاء يوحنا المعمدان فمجموع السنين من ميلاد المسيح الى مجيء يوحنا ثلاثون سنة . جاء يوحنا من برية الزيفيين الى اليهودية وقد كناه بالمعمدان لان الله قد أرسله ليعمد بمعمودية التوبة . ومتّى لم يحدّد تلك الايام ولوقا يحدّدها فيجب البحث عن أشياء كثيرة .
ولما نظر هيرودس الى سخرية المجوس منه لعدم رجوعهم اليه ابتدأ يبحث بغضب مع الكهنة عن المسيح وأين يولد . فاخبره احدهم عن يوحنا قائلاً قد ولد بجوارنا ابن لكاهن واظن انه المسيح . فارسل في الحال طالباً زكريا وسأله عن ابنه فأجابه انه في البيت . فارسل معه جنودا ليحضروه . الا ان احد الحضور اسرع واعلم اليصابات فحملت الصبي وخرجت مسرعة لبرية الزيفين . فلما رجع زكريا للبيت ولم يجد اليصابات خاف ان يرجع الى هيرودس فذهب والتجأ في الهيكل . فأرسل هيرودس سيافاً وقتله بباب المذبح . ويقول القديس افرام ان اليصابات هرّبت يوحنا بإلهام من الله وصنعت له قميصاً من وبر الابل ومنطقته بجلد والبسته فنمت ثيابه معه ثلاثون سنة ، كثياب بني اسرائيل التي استمرت معهم اربعون سنة . وكان ليوحنا لما هرب سنتان ونصف سنة من العمر . آخرون قالوا ان ملاكاً خطفه من حضن أمه ولم تعرف مسكنه . آخرون قالوا ان زكريا لما علم بسيف هيرودس ادخله للهيكل حيث تبشّر به وصلى ومن هناك انتقل الى البرية ، فلما عرف اليهود سألوا والده عنه فقال لا اعلم ، فقالوا قد خباته لانك لم ترد خلاصنا فالتجأ الى المذبح وهناك قتلوه . آخرون قالوا ان اليهود قتلوه حسداً لانه لم يعدم البتول من مكان البتولات . اما نحن فعلى رأي القائلين ان هيرودس قتله ولم يزل دمه يغلي ويصرخ ثمانية وخمسون سنة حتى جاء طيطوس بن واسبيسيانوس وحاصر أورشليم وفتحها . فلما دخل الهيكل ونظر الدم يغلي ويصرخ استطلع الامر فاعلموه عمّا جرى لزكريا فأمر بذبح الكهنة في مكان الدم الصارخ فبطل حالاً الصراخ . وقيل عن يوحنا انه رضع حليب امه بالبرية خمسة عشرة سنة وكان يقتات من الحشيش ، اما امه فكانت تتسوّل وتقتات . وقد مكث ثلاثين سنة بالقفر والروح القدس كانت ترافقه وتدبر له قوتاً ولباساً وتغنيه بالرؤيا الالهية وتعلمه ما هو الواجب . يسأل البعض لماذا هرب الى القفر ؟ فالجواب لكي لا يساء الظن به فيقول الناس انه يشهد للمسيح لاجل القرابة والمرافقة منذ الطفولة . لذلك انتقل من النعمة الى البرية مدة ثلاثين سنة حتى بلغ كلاهما حد الكمال ليصدق الناس كلام الذي يناديان به . فجاء ليفتح المعمودية لا بإرادته بل بإرادة الله ، كقول لوقا ان كلمة الله كانت الى يوحنا ، اي امر الله . فبالرؤيا والكلمة جاء وقال : ” انا لم اكن اعرفه . ولكن ليظهر لاسرائيل لذلك جئت اعمد بالماء . ولكن الذي ارسلني لاعمد بالماء قال لي ان الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس ( يو ا : 31 و 33 ) واذ يسمعون انه يعمد يأتون اليه من كل ناحية فيكرز ويبشّر عن المسيح . ولأنهم كانوا متنجسين بالخطايا جاء يوحنا ليذكرهم بخطاياهم ويهيئهم للتوبة بواسطة المعمودية . قال القديس يوحنا لم يكن الغفران بمعمودية يوحنا لان المسيح لم يكن قد ذبح على الصليب وان الروح لم يعط والخطية لم تقتل . وقال بولس الرسول : ” ان يوحنا عمّد بمعمودية التوبة قائلاً للشعب ان يؤمنوا بالذي يأتي بعده أي بالمسيح يسوع ” ( اعمال الرسل 19 : 4 ) . ولم يقل انه عمّد لغفران الخطايا ولكن كيف يقول مرقس ولوقا ان يوحنا عمد لغفران الخطايا ؟ قال القديس يوحنا ان اليهود كانوا ظالمين لم يتألموا على خطاياهم بل كانوا يبررون انفسهم . لذلك التزم ان يقول انا اعمّد لغفران الخطايا لكي يذكّرهم ويعدّهم لقبول معمودية المسيح مانحة الغفران كقول بولس قد اعتمدتم وتقدستم ( لا بمعمودية يوحنا ) لكن باسم المسيح وبروح الله . قال قوم ان المعموديات ثلاثة : معمودية يوحنا للتوبة ، ومعمودية التلاميذ باسم يسوع المسيح قبل موته لغفران الخطايا والثالثة معمودية التبني التي صارت بعد نزول الروح . لانه ما عدا الروح لم تؤحذ البنوة بالوضع . ان القديسين غريغوريوس الثاولوغوس وموسى الحجري ويوحنا اسقف دارا وغيرهم يعدّون خمس معموديات . اما نحن فنقول ان المعموديات سبعة : الاولى ، تلك التي قطعت الخطيئة وغسلت العالم من الآثام . والثانية ، تلك التي بواسطة الغمام والبحر كقول بولس : ” وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر ( اكو 10 : 2 ) . والثالثة ، المعمودية الناموسية والرمزية وتسمى التطهير وهي التي كان يستعملها اليهود حتى في الاكل فانهم لا يأكلون ان لم يغتسلوا اولاً فكانت تطهر العارض من الطبيعة كمن يدنو ويلمس ميتاً ويحتلم بالليل او يأكل شيئاً لا يجوز اكله او يذهب لعزاء ” فكل من يتنجس بهذه يغتسل ويبقى للمساء نجساً ” ( لا : 15 : 5 ) . الرابعة ، معمودية يوحنا بالماء ” أنا اعمدكم بماء التوبة ” ( مت 3 : 11 ) وهي أشرف من معمودية اليهود واقل رتبة من معموديتنا لخلوّها من الروح القدس ومن غفران الخطايا ، ويعرف ذلك من ان بولس عمد الذين كانوا قد اعتمدوا سابقاً بمعمودية يوحنا ( اعمال 19 : 4 ) من آفلوا الاسكندراني وكانت كقنطرة يعبرون منها اليها ، ولم يكن فيها طهارة جسدانية لكنها كانت تأمر بالابتعاد عن الشرور وان يعمل بالمقابل اثماراً تليق بالتوبة . الخامسة ، معمودية المسيح ( مت 3 : 4 ) و ( يو 3 :3 ) وهي كاملة لانها تجعلنا أولاداً لله الآب واخوة للمسيح وهي مملوءة نعمة وغفراناً للذنوب والخطايا ومانحة الروح . السادسة ، معمودية الاستشهاد وهي التي بها اعتمد الشهداء وقبلوا الروح لانهم من اجل يسوع استشهدوا وتوّجوا فدمهم قام مقام العماد . السابعة ، معمودية الدموع وهذه تمنح الغفران لانه ليس في الامكان للذين اعتمدوا اولاً واخطأوا ان يعتمدوا ثانيةً ، لكن الله اعطى الدموع حتى يبكي الانسان نادماً على خطاياه وبها ينال الغفران وترد المنحة الروحية التي اضاعها حين ارتكابه الخطيئة كداود الذي اعتمد بدموعه بعد ارتكابه الفجور والقتل . ورب سائل يسأل باية معمودية اعتمد ربنا ؟ قال القديس ساويرس بمعمودية يوحنا للتوبة كإنسان مذنب لأنه غير محتاج للتوبة ولم يعتمد لغفران الخطايا ولقبول الروح كالمحتاج لأنه لم يخطئ ولم يعمل اثماً كقوله : من منكم يوبخني على خطيئة ( يو 8 : 16 ) ، ولم يعوزه الروح لانه شريكه بالطبع . قال مار تاودوطا التكريتي اعتمد للتوبة وللبنوة بالوضع لكونه لم يعتمد لنفسه بل لنا ولاجلنا . فكان يجب ان يقال انه اعتمد معمودية واحدة لكونه اعتمد لاجلنا ولكي يقدسنا بعماده الغى معمودية اليهود واعطى هذه للنبوة كما عمل الفصح وكمّل العتيقة ثم ابتدأ بالحديثة . ويقول فيلوكسينوس انه قد اعتمد عمادنا لانه كان مزمعاً ان يعطينا اياه لانه مثال لموته وقيامته . وكما مات وقام وصار لنا البكر من الاموات هكذا اعتمد معموديتنا واعطانا اياها في الحال . ثم اعتمد ليصير معروفاً لاسرائيل وان يتمم كل الناموس أي العدل وان يثبت لنا البنوة بالوضع ويجعلنا أخوته وخاصته ويوحد الروح القدس مع جسدنا بواسطة جسده وينقض القضية التي علينا من البدء ويفتح لنا أبواب السماء التي كانت اغلقت بتجاوز الوصية . ولكي يقدس الماء ويجعله مطهراً ومقدساً ومانح الغفران ويقدس المعمد ويرض رأس التنين العقلي الخالد في المياه ذاك الذي أغرقه بواسطة فرعون وان يستأصل الخطيئة في المياه كما قبلها عليه وقت صلبه وان يظهر الثالوث الاقدس فوق المياه . ولكي يحتم المعموديات والغسل الجسداني ويفرض العماد الروحاني الذي من الماء والروح الذي صعب ذكره على نيقوديموس وان يغسل دنس الخطيئة الموجودة فينا وبالروح والماء يقدس الاردن مثلما هو روح وجسد . ولكن لماذا جعل العماد بالماء لا من شيء آخر ؟ اولاً ، لان جبلتنا الاولى كانت من الماء والتراب ، وكذلك تجديدنا الاخير يجب ان يكمل بالماء والنار . ومثلما نفخ بوجه آدم نسمة الحياة هكذا بالعماد نفخ فينا الروح القدس . ثانياً ، لان حياة المحسوسات بالمياه . ثالثاً ، لانه من المياه خلقت الطيور والاسماك وغيرها وفيها تنموا وتكثر وتتوالد كما امر الله وهكذا بنو البشر يولدون ويتوالدون بالمعمودية ويتجدّدون ويأخذون أجنحة النعمة ليطيرون بها لملاقاة ربنا . رابعاً ، لان المياه سلاح ضد العطش والنار ولاجل ذلك فإن اعتمادنا بالماء يخمد عنا لهيب الآلام السمجة وهناك تطفأ تلك النار الاخيرة . خامساً ، لان الماء شفاف يرسم اشباه وجوه الناظرين فيه هكذا قد اعطانا المعمودية لكي ترسم فينا صورة عدم الفساد . سادساً ، كما يغسل ( بالصابون ) وسخ الثياب هكذا المعمودية تنظف النفس والجسد من الخطايا ، وكما ان الماء يمحي كتابة الصكوك الواقعة فيه هكذا المعمودية محت صك الخطيئة والموت الذي كتبه علينا ابونا آدم ( ا بط 3 : 21 ) . سابعاً ، الماء يشد الاعضاء وينشط المغتسلين فيه هكذا نحن فبعد ان نعتمد بالماء نقتني قوة العمل الروحاني . ثامناً ، ان الاواني الخزفية المشجورة بالنار ان لم تبل بالماء تعود تراباً هكذا نحن ان لم نغتسل بماء المعمودية فسنرجع الى التراب اليابس محرومين من ماء النعم الالهية وينبوع الحياة الابدية . تاسعاً ، ان الماء والنار هما عنصران مطهران فالذين لم يتطهروا بالماء هنا يتعذبون في النار هناك . عاشراً ، كما ان الماء يغسل الاشياء وهو لا يحتاج الى غسيل كذلك من اغتسل بالمعمودية لا حاجة به لمغسل آخر . الحادي عشر ، ان الماء شيء موجود عند كل واحد ، ولكي لا يعدم الناس العماد جعله الله مادة له . الثاني عشر ، بالماء قد غسلت اوساخ بني نوح وفيه غرق المصريون وبالماء امتحن الساجدون للبعل ، لاجل ذلك بالماء صارت المعمودية . الثالث عشر ، لكي يفند مزاعم البعض من جهة الماء لان اولئك الجاحدين كانوا يزعمون ان المياه شريرة ردية فان الطوفان بها قد صار وبالماء غرق كل جيش فـرعون فأظهرهم بالمعمودية نائلين عدم الموت . الرابع عشر ، لانه على الماء قد خطبت رفقة وراحيل وصفوره ( تك 24 ) وكان ذلك اشارة الى ماء المعمودية اذ على الماء خطبت الكنيسة . الخامس عشر ، ” وأما بنو اسرائيل فمشوا على اليابسة في وسط البحر والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم ” ( خر 14 : 29 ) واليا واليشع الاردن وبالماء طهر نعمان من برصه ( 2 مل 5 : 14 ) ومياه حزقيال باركت شيلوحا . فكل هذه المعموديات كانت مثلاً لمعموديتنا والموضع الذي شق فيه يشـوع وايليا واليشع الاردن ( 2 مل 2 ) وفيه اعتمد مخلصنا . ورب سائل يسأل لماذا اعتمد سيدنا بالاردن لا في غيره ؟ ليكمل الاسرار التي سبقت ورسمت بهذا النهر . فانه به عبـر يشوع وشعبه الى ارض الميعاد ( يش 3 ) . معرّفاً ان الذي يعتمد بالاردن الروحاني يرث الارض الموعودة للقديسين . وجاز فيه ايليا قبل صعوده واعتمد ( 2 مل 2 ) موضحاً ان الذين يعتمدون فيه يصعدون للسماء . وفيه قد تطهر نعمان لنتعلم انه بواسطة المعمودية تطهر الشعوب من ادناس الخطيئة . وبه عمل اليشع اعجوبة اذ القى عود الخشب فطفا الحديد ( 2 مل 9 : 1 ) عندما كان الانبياء يقطعون الحطب ، وذلك سر عن المسيح المسمى غصناً او عوداً اذ خلص آدم الذي كان غارقاً في بحار الخطيئة كالحديد . ثم ان نهر الاردن هو مجموع من مائين الواحد بارض الشعوب ويسمى اور ، والثاني كذلك ويسمى دن . ويدل ذلك على الشعب والشعوب الذين صاروا واحداً بالايمان . وهذه المجاري التي منها يجتمع الاردن يسميها داود انهر اذ يقول : ” انت يبّست الانهر القوية ” ( مز 79 ) وايضاً ليتمّم نبوة ارميا القائل صعد الرب كالاسد من الاردن . ثم ان الاردن يمر في بحيرة طيبريوس ولا يختلط ماءه بماء البحيرة ، للدلالة على ان الذين يعتمدون يعبرون هذا العالم ولا يتلطخون بحمأة الخطيئة ولا يختلطون بها . وربنا لم يعتمد في البحر ليعرفنا انه بعيد من الخطيئة التي تشبه ملوحة ماء البحر . ولم يعتمد في الانهر الكبار ليعلمنا التواضع . ولم يعتمد في اصغر من الاردن ليختم الرموز المقولة من الناظرين لاجل الاردن . ولم يعتمد في المستنقعات لانها لا تنظف الاوساخ كلياً . ولعلّ قائل يقول لماذا اعتمد من يوحنا عبده ؟ وذلك ليعلمنا التواضع باقنومه فهو غير محتاج . اعتمد من عبده وعلمنا ان نخضع للادنى منا وانه لا يجب ان نمتنع من ان نقبل الموهبة منه لانها تعطى على السواء من الاعلى والادنى . وكان يظن ان يوحنا مختار من الله لهذه الخدمة . وعظمة المسيح لم تكن ظاهرة ولكي لا يظن اليهود ان المسيح يفتخر قبل العماد من يوحنا . وأيضاً ليكرز عنه انه هو الرب . وبامتناع يوحنا بقوله لست مستحقاً ان احلّ سيور حذاءه يفهم الحضور ان المعمَّد افضل من المعمِّد . ويقول آخرون ان المسيح عمَّد يوحنا بعد ان اعتمد وآخرون قالوا انه كان معمّداً من بطن أمه لان العماد هو منحة الروح القدس ويوحنا قبل الروح في بطن امه ( لو 1 : 42 _ 44 ) فاذاً في البطن قد تعمّد . ولكن ماذا منحت يمينه للمسيح ؟ قال قوم لم تمنحه شيئاً . لكن كمثل سائر المعمدين وضع يده كتدفق الانهر في البحار وهي لا تحتاج اليها . ويقول آخرون ان يوحنا وضع يده ، لاجل الرؤيا فقط ، ليريه انه هو حمل الله . وآخرون قالوا ان بوضع يده على رأسه وضع خطايا بني البشر عليه ، كالذبائح الناموسية التي كانت ترسل الى القبر ، لان الخاطئ كان يضع يمينه على الذبيحة كي ترتفع الخطيئة منه وتحل على الذبيحة ومع الذبيحة تقتل الخطيئة ، هكذا أخذ يوحنا خطيئة العالم ووضعها على رأس المسيح ولما اعتمد المسيح غرق الخطيئة في الماء . والدليل على ذلك قوله : ” هذا هو حمل الله رافع خطايا العالم ” ( يو 1 : 29 ) . ومثلما وضع اكليل الشوك على رأسه حمل خطيئة كل العالم قاطبة وبموته أمات الخطيئة وابطلها وكذلك بعماده أغرقها في المياء . آخرون قالوا ان الكهنوت الذي وهبه الله لموسى وأعطي لهرون ونسله حتى تناسل ليوحنا فبوضع يده على المسيح اخذ المسيح الكهنوت منه وأعطاه لرسله لا لكونه محتاجاً بل لانه واهب الكهنوت . لكنه بالتدبير اخذها كقول القديس افرام في اقواله : فمال العالي على جبل سينا . ورب معترض يقول ان الانجيل لم يذكر ان يوحنا وضع يمينه على رأس المسيح ، فالشهادة من العهد القديم اذ قال الله لموسى : سأضع يدي عليك . كما ان موسى أيضا وضع يده على هارون ومسحه وقدسه . وقد ثبت من العهد الجديد ان المعمودية والكهنوت يمنحان بوضع اليد . ولما كان يعمّد احداّ كان يتلىعلى راسه : ليتعمد فلان بمعمودية التوبة لغفران الخطايا . ولما عمّد المسيح لم يتل شيئاً على راسه علماً منه انه إله متأنس وغافر للخطايا . لاجل ذلك قال له : انا المحتاج ان أعتمد منك . ولذلك اجابه ربنا له المجد قائلاً : ضع يدك واسكت لان للآب قولاً سيقوله . ثم كان واجباً على يوحنا ان ينادي باسم المسيح ليشتهر امره عند الناس كما اشتهر هو قبل مجيء المسيح اذ لم يكن غيره ، كقول زكريا له : وانت ايها الصبي نبي العلي تدعى . ولكي لا يبقى مجالاً لليهود ليتكلموا عنه . قائلين فأرسل يوحنا ليكرز على اليهود بالتوبة فاخذ يكرز عليه ولم يكرز هو على نفسه . وقد أعتمد وهو ابن ثلاثين سنة لان آدم وحواء خلقا في مثل هذا العمر ثم صار بداية العالم الجديد . وخلقنا بالمعمودية خلقةً جديدةً . واذ كان مزمعاً ان يحل الناموس بقي الى الثلاثين من عمره حافظاً للناموس لئلا يقول أحدا من مرتكبي المعاصي المخالفين للناموس انه لم يستطع ان يحفظه فتعداه ظناً منهم ان الانسان في ايام شبابه تتغلب عليه الشهوات النفسانية كما يتغلب عليه في أيام طفولته عدم الراي وقلة الصبر وفي عهد الرجولية محبة الفضيلة . فلذلك انتظر المسيح الى ان يبلغ الثلاثين من العمر ليباشر العماد ليكون في عهدي الطفولة والشباب كاملاً في الفضائل كما كان كاملاً في عهد الشباب . وعلاوةً على ذلك اراد ان يفهم الجهلة ان يمتنعوا عن تعليم الشيوخ قبل ان تلتحي وجوههم . وببلوغه الثلاثة عشر من العمر أشار عن الاقانيم الثلاثة الذين ظهروا على النهر وعلمنا ان الناس يقومون يوم القيامة وهم في الثلاثين من العمر وان المعمودية هي دلالة الدفنة والقيامة . وفي ثلاثين سنة غلب الخطيئة وحارب الشيطان بثلاث حروب وقهر الموت في ثلاثة ايام وبثلاثة عشر سنة من العمر غلب الخطيئة وبعد ذلك اعتمد . والناموس بثلاثة شهود ينال النصرة والغلبة . وجاء الناموس ليعطينا الحياة بالعدل فالذي يعمل به يحيا . فلم نقدر ان ننال الحياة لسبب ضعف جسدنا فاحتجنا للنعمة لكي نحيا بها .
وفي السنة الخامسة عشرة من سلطنة طبياريوس قيصر .. الخ ( لو ص 3 : 1 )
فلما اراد ان يكتب الحق . وضع اسم الملك والزمان . وليعلم ان الرومانيون بعد ان ملكوا على اليهود وضعوا عليهم الجزية وقسّموا بلادهم الى أربعة أقسام . وعلى كل قسم اقاموا ملكاً لجمع الجزية . وكل واحد من المسلطين كان يدعى رئيس الربع . لذلك ذكر لوقا المسلّطين على اربعة اقسام المملكة بأسمائهم .
( يكرز في برية اليهودية ) البرية هي الارض البعيدة من العمارة . كان يكرز ليجتمع اليه الجموع وليريهم المسيح ويوصيهم ان يقبلوه . ولو ذكر لهم المسيح وكرّز عليهم في البيوت والمجامع لكان أُبغض منهم وقُتل . ولكن اذا اجتمع الجموع يكون معروفاً بشهادة الآب والروح ويوحنا . ويصير بعيداً من شهادة الكذب . وقوله في البرية اي في الزمان الذي كانت فيه انفس الناس خالية من كل عمل صالح . وايضاً الملك الذي انادي عنه هو معطي التوبة التي لم يعطها الناموس . ولما كان اليهود يسمعونه يتكلم عن التوبة ويدعوهم مذنبين كانوا يخرجون اليه . ثم انه بدأ كرازته بالتوبة ليفهم ان الملك الذي ينادي باسمه لا يريد الا التوبة لانه مصدرها.